لستم نازيين حقا..فقط لأن ثمة فلسطينيين لم تذبحوهم بعد

TT

أُنكر أن تكون تركيا دمرت 3200 قرية، وقتلت آلاف الأكراد، وسجنت النساء والرجال لأنهم كتبوا أسماءهم باللغة الكردية. انني أنكر أن تكون الولايات المتحدة تسببت ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ بموت 25 مليون إنسان منذ الحرب العالمية الثانية (في كوريا وإندونيسيا وجواتيمالا وتشيلي والأرجنتين وأنجولا وبنما وأفغانستان، ويوجوسلافيا وقائمة طويلة من البلدان). إني أنكر أن يكون الإسرائيليون هدموا البيوت، واقتلعوا أشجار الزيتون، وحطموا سيارات الإسعاف، وأطلقوا النار على الصحافيين، ومزقوا أجساد الأطفال، وأعدموا من غير محاكمة أفراد المقاومة، ثم حاولوا إبادة أربعة ملايين فلسطيني. إني أنكر أن يكون النازيون اضطهدوا وعذبوا وأبادوا ستة ملايين من اليهود.

ما الذي يجعلني أقول ذلك؟ إن ما أعنيه هو: لماذا يتعرض الذين ينكرون المحرقة (التي تعرض لها اليهود) إلى ما يستحقونه من تشويه السمعة، ورؤية كتبهم تُمنع من التداول واستنكار تصريحاتهم، والتعرُّض للمحاكمة والنبذ، بل ربما السجن كذلك ـ بينما أولئك الذين ينكرون الجرائم التي ترتكبها تركيا أو إسرائيل أو الولايات المتحدة ـ إذا اقتصرنا على ذكر حالات قليلة ـ يجدون أنفسهم قد رُقيّوا في وظائفهم، وكوفئوا بتعيينهم في مراكز وظيفية مهمة، أو مكِّنوا من كتابة عمود يومي في صحيفة كبرى، وجرى تملقهم بإصدار مؤلفاتهم بأشكال جذابة، وقوبلت مؤلفاتهم بمراجعات كلها ثناء، وصاروا محل الرضا عموما، وقُلِّدوا الأوسمة ونالوا الاحترام.

إني أعلن أن النازيين قد اضطهدوا وعذبوا وأبادوا ستة ملايين من اليهود. وأعلن كذلك أن تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل فتحت ثلاثة جروح جديدة في الخاصرة الموجِعة للإنسانية. كما أُعلِن أنه يجب على كلٍّ منا أن يعترف بهذه الحقائق، وإن لم يكن لذلك من سبب إلا الخوف من غَوْص الخناجر إلى مستويات أعمق في تلك الجروح. وأعلن كذلك، أن أولئك الذين لا يستطيعون، أوْ لا يريدون الاعتراف بكل هذه الأشياء معا، ليسوا مدانين بالفساد الأخلاقي وحسب ـ بل أصبحوا شركاء بالتبعية فيها ـ وأسوأ من ذلك، أصبحوا شركاء في كل فظائع المحرقة، ويستحقون العقاب الذي خصَّت به محكمة نورمبيرغ المتعاونين.

لقد حكمنا على المعذبين في العالم بأن يتحركوا في مسار ضيق جدا محدود بين البديلين التاليين: إما الإغراء بالحقد، وإما الإغراء بالطِّيبة الغيبية. إننا ننظر بإعجاب للعبيد الطيبين، بل إننا لنستورد معتقداتهم، بالإضافة إلى قهوتهم وشرابهم المصنوع من الكاكاو، ذاك لكي نُضفي بعضًا من الروحية على نظامنا الغذائي. بل يمكننا، إن زحزحنا أنفسنا قليلا باتجاه التيار اليساري، أن نفهم ما ينتاب العبيد السيئين من غضب وتمنُّع ـ وإن كنا لا نزال ننكُر عليهم مبالغاتهم. ومع ذلك لا يُسمح للفلسطينيين حتى بهذا القدر من الغضب والتمنع. إنا نسمح للكوسوفيين بأن يكرهوا مضطهِديهم من الصرب. ونتفهم احتمال أن يكره التوتو التوتسي، واحتمال أن يكره السودُ البيض. بل ربما نسمح بأن يكره التيموريون والأكراد قاتليهم. ونحن نسمح، بالطبع، لضحايا الإرهاب بأن يكرهوا منظمة ETA الباسكية، وابنَ لادن (ونحن نسمح بالإضافة إلى ذلك بأن يأتي هذا الكره على شكل قنابل حرارية وصواريخ (إشارة إلى الأمريكيين)، أما الفلسطينيون فلا يسمح لهم بشيء من هذا إطلاقا. فإذا أَرغم جنديٌ إسرائيلي متحصِّنٌ وراء مدرَّعته طفلا فلسطينيا على الجثوم على ركبتيه، ثم غلَّ يديه وراء ظهره، وكَسَر عظامَ يديه بعقِب بندقيته، فإن كره هذا الفلسطيني سيمثل جريمة عظمى لا مثيل لها (أي سيكون كرهُه كرهًا للسامية)، وهي جريمة تفوق الجُرم الذي ارتكبَه الذي اعتدى عليه. وأكثر من ذلك فإن الكره الذي شَعَر به الفلسطيني يُسوِّغ ويُشرِّع ويطهِّر سلوكَ الجندي. لو كانت كلمة «يهودي» تعني «ضحية»، فإن اليهود ـ أي، لوْ كان بريمو ليفي وشارون، وآن فرانك وروتشيلد ـ هم جميعا ضحايا، وكانت «الدولة اليهودية» و«السيف اليهودي» و«الجلاد اليهودي»، هم جميعا، «ضحايا»: وسيعني أن ضحايا هؤلاء هم الجلادون. وفي أيامنا هذه تشتبك الدبابات اليهودية، غير المسلحة، مع أطفال لهم أسنان، وتُدافع الطائرات العزلاء عن أنفسها ضد الأمهات اللاتي يُخفين الوَجع تحت أثوابهن: وتُوجَّه الصواريخُ غير المحميَّة ـ مثل ديفيد في الكتاب المقدس ـ نحو مَرَدة الكرامةِ والأخلاق الشامخة. إن مثل هذا الفارق الذي يَعقِل اللسان ويمتثل بعدم التساوي بين التقنية العسكرية العزلاء وبين هذه الكرامة المتفوِّقة، أي العقل المتفوق، هو ما تشير إليه أكثر الصحف اعتدالا ـ وأكثر السياسيين جرأة ـ بأنه «معركة».

«هُراء» ساراماغو حدثت المحرقة، مثلها مثل موت المسيح، في وقت معيَّن من التاريخ، لكنها تَحُلُّ في نوع من الحقيقة الغيبية العليا خارج التاريخ، إذ تتميز بكونها حقيقة معاصرة دائما، وهي، مثلها مثل بعض الأمراض العصبية الدائمة، تَمنَع الإنسان من أن يعرف أن الأحداث لا تزال تَحدُث، وأننا مستمرون باجتراح إحداث الأحداث، وأننا مسؤولون عما نُحدثه. ويلوم الجرحُ الأصلي لـ «لدولة اليهودية»، مثله مثل السبب الأصلي للمرض عند العُصابي، الكونَ بلا انقطاع: وإذا وجد الكونُ الدولةَ اليهودية مخطئة فإنها تلوم الكونَ على إحساسها بالخطأ الذي تعاني منه: ذلك أن الإنسان لا يمكن له أن يُحس ألَمًا بهذه الدرجة من الضخامة تأسيسا على جريمة صغيرة، وهو لا يمكنه ذلك من غير أن يصير مُدانا بعدوان يتمثل بالتكرار الحَرْفي للمشهد العنيف الأصلي. ويُسمى ذنْبُ الذين يذكِّرون العُصابي بأنه هو أيضا ربما يكون مذنبا، بـ«عدم الحساسية». كما يسمى ذنْبُ أولئك الذين يذكِّرون «الدولة اليهودية» بأنها، هي، ربما تكون مذنبة، بـ«معاداة السامية». فَقَبْل المحرقة لم يتعرض اليهود لأي شيء يمكن استخلاص أي درس منه (ربما باستثناء استعباد فرعون للعبرانيين). أما بعد المحرقة، فيمكن التسامح مع الجرائم كلها، باستثناء أية نية للتنافس مع الألم «اليهودي». بل إن مجرد صوت الأنين الحزين يمكن أن يوصم بـ «معاداة السامية». فالصورة التي تُظهر والد محمد الدرة وهو يحتضِن جسد ابنه الميت أداةٌ من أدوات المؤامرة ضد «الشعب المختار». يقول مناحيم بيري، الذي أقضَّت مضجَعه تصريحاتُ معروفة لساراماغو (الكاتب البرتغالي الحائز جائزة نوبل للآداب): إنه يشعر بغضب شديد، «لأنه (اي ساراماجو) لا يمكنه أن يكون محقًّا في إصدار مثل تلك المقارنات إلا إنْ أرسلنا ستةَ ملايين من العرب إلى أفران الغاز». أَفَهمنا ما يَقصده؟ إن ما قاله بيري يعني أنه متى ما حافظنا على أن يكون الرقم اقل من ستة ملايين، فلن تكون هناك أية مشكلة. ذلك ان براءتنا ستكون في مأمن: أي أننا لن نكون نازيين أبدا، وهو ما يعني أننا لن نوصف بأننا «سيئون» أبدا، وأن من يجرؤ على إدانة حمّام الدم المتواضع الذي أنجزناه، كما فعل ساراماغو (في اثناء زيارته للاراضي الفلسطينية ـ المحرر)، سيقع في «العمى الأخلاقي» وفي «العداء للسامية». ويمكن لبيري أن يَطمئنّ، إذ لا يوجد في فلسطين إلا أربعة ملايين فلسطيني. فإذا تمكنت دباباتُه العزلاء من قتل نصفِهم خلال هذا الهجوم، فسوف يساعد ذلك على المزيد من إنقاص الأُسس التي تقوم عليها تلك المقارنات التي تتسم بالمبالغة. فكلما كان عدد الفلسطينيين الذين لم يُقتلوا أقل، كان ذلك سببا في دفعنا خطوات أبعد عن ظل النازية. فإذا بقي فلسطيني واحد واقفا ـ وحيدا مهزوما يمتطي بدقة زوجا من رجليه الإنسانيتين ـ فإن إرغامه على ان يجثم على ركبتيه، وغل معصميه وراء ظهره، وكسر عظام يديه بأعقاب بنادقنا، سيكون ذلك كله برهانا على طيبتنا التي لا يمكن التشكيك بها وسببا لها. وإذا حَلَّ اليومُ الذي لا يمكن لنا فيه أن نقتل أحدا فإنه لن يكون باستطاعة أحد من «أعداء السامية» ، حينذاك، أن يتهمنا بالوحشية.

* ناشط أسباني متخصص في الثقافة العربية. والمقال مترجم عن الانجليزية التي اعدها فرانسيسكو غونزاليس.

** أستاذ في جامعة الملك سعود ـ الرياض