إنه يحبك يا جميلة

TT

ذهبت امس الى حفل توقيع كتاب للمحامي عبد الله قبرصي. وقد لا يعرف القراء العرب الكثير عن الرجل، لكنه في لبنان اسم لامع منذ الثلاثينات، عندما كان احد مؤسسي «الحزب السوري القومي الاجتماعي». واكثر ما عرف عنه انه اكثر الحزبيين مقدرة على الفرار من السجون السياسية. فقد ساعدته قامته غير المديدة، مدَّ الله في عمره، على الاختباء في صناديق السيارات، او خلف اعمدة الهاتف، وقد تنقل عبد الله قبرصي من سجن الى سجن، وترحّل من بلد الى بلد وعلا صوته من منبر الى منبر. فمن لم يكن يستطيع رؤيته خلف المنبر كان بالتأكيد يسمع صوته وبلاغته ورنة حنجرته. وما يريد ان يقول.

كان توقيع الكتاب في نقابة الصحافة اللبنانية وقد كنت اول الواصلين الى النقابة، لما يربطني بصاحبها وصاحب التوقيع. وبعد قليل بدأوا يطلون، الواحد بعد الآخر. وكان المشهد مبهجاً: بعضهم يكبر عبد الله قبرصي قليلاً وبعضهم يصغره قليلاً. فالذي يكبره جاوز الخامسة والتسعين اما الفتيان من الرفاق فقد جاوزوا التسعين او لامسوها. وقد اطل الدكتور نقولا زيادة، استاذ التاريخ السابق في الجامعة الاميركية، ومعه عصا تشرشلية للزينة وليس لتسعف. ولا ادري في اي عمر طويل اصبح الدكتور زيادة، لكنني اذكر انني سمعته يروي مرة كيف جاء في رحلة مدرسية من فلسطين الى لبنان بطريق... حلب، مشياً على الاقدام، في بدايات القرن الماضي.

وكان المشهد مبهجاً. هؤلاء الشبان يتضاحكون ويتذكرون ملاحات العمر. وعندما جئت كان في ظني ان عبد الله قبرصي سوف يوقع كتاباً عن ذكرياته في السياسة والسجون والانقلابات وصناديق السيارات، فاذا به يوقع ديواناً شعرياً عنوانه «قبل الطوفان وبعده». وايضاً اعتقدت انها قصائد في السياسة والفرار من السجون، فاذا الفتى يوقع مجموعة من قصائد الغزل والهوى والشباب. وكنت اظن، بكل صدق، ان ما بين عبد الله قبرصي والشعر، قامتان، الحزب والسياسة، فاذا بي اقرأ، «قالت الصغرى اتعرفن الفتى»، اليك منه هذين العنوانين: «غرام في الثمانين» و«غزل في التسعين». وتبدأ الثانية بالقول:

اني احبك يا جميلة فلكِ القوافي المستحيلة فالشعر ان لم تلهمي ابياته جاءت مشاعله هزيله ويختمها بالقول:

انا شاعر التسعين قيس آخر مجنون ليلى العامرية والقبيلة انا شاعر التسعين اشعر انني جيش اضاع سلاحه وخيوله لقد فوجئت بشاعرية عبد الله قبرصي، شاعر التسعين. وفوجئت ان الجزء الاكبر من الديوان الصغير مناجاة في كل الاعمار: «اتيتِني في الزمن الاخير/ شفافة اوهي من الحرير/ اتيتني والعمر في افوله/ بعد نضوب الماء في الغدير»، وعندما قرأت ما كتب في الاهداء، رأيت كلمات كتبت بخط مرتجف، تكاد حروفها لا تتبين لما اصاب عزم كاتبها من وهن. لكن الفتى الاغر ماض في قرض الشعر، يتطلع، كما نتمنى له، الى كتابة قصيدة عنوانها: حب في المائة. او اكثر. ولو بخط مرتجف.