صراع العولمة في كشمير

TT

ليس واضحا بعد حجم الدور الذي يلعبه تيار العولمة المتمثل في تنامي المصالح ذات البعد التقني في تهدئة التوتر الهندي ـ الباكستاني في ما يتعلق بالازمة الكشميرية. فخلال السنوات العشر المنصرمة بدات الهند في قطف ثمار سياستها ارساء قاعدة تقنية في البلاد منذ الاستقلال، إذ نجحت وقتها في تجيير التنافس الدولي لإقامة مراكز تقنية بمعونات روسية، امريكية واوروبية في مختلف بقاع الهند.

ثم جاءت ثورة المعلومات لتجد ارضية ممهدة رفدتها سياسة حكومية متكاملة بالمناهج التعليمية، والتركيز على الجانب التقني مع تهيئة للبيئة الاستثمارية، حتى برز ما يعرف بوادي السيليكون في الهند، اقتفاء لآثار وادي السيليكون الامريكي الذي احتضن الصناعة التقنية الامريكية. ونجحت العقول والشركات الهندية في ايجاد تاثير لها، حيث تعتمد نحو مائتين من كبريات الشركات الامريكية على البرمجيات الهندية لادارة انشطتها. وهذا مؤشر على حجم تنامي هذا النشاط في الاقتصاد الهندي. فالعائد من هذه الصادرات الذي كان في حدود 150مليون دولار فقط، قبل عشر سنوات، وصل الى 7.6 مليار بنهاية العام المالي الماضي، وهذا رقم يمثل سدس اجمالي عائدات الصادرات الهندية سنويا، كما ان ثلثي صادرات هذه البرمجيات تذهب الى السوق الامريكية. ولذا ليس غريبا ان تكون الهند واحدة من اوائل الدول التي زارها بيل جيتس عملاق صناعة الكومبيوتر.

منطقة بانغلور التي تعتبر في قلب صناعة البرمجيات الهندية ومركزا نشطا للزوار الاجانب من رجال الاعمال خاصة الامريكيين، تعيش حالة من الكساد هذه الايام، بسبب حالة التوتر الناجمة عن الازمة الكشميرية واحتمال اندلاع حرب بين الهند وباكستان، تعيد الى الاذهان اجواء العام 1971، عندما اندلعت الحرب بينهما في ذات القضية، رغم بعد هذه المناطق عن كشمير المتنازع عليها باكثر من الف كيلومتر. وقتها لعبت موسكو الشيوعية دورا مهما في تهدئة الاوضاع، وكانت الهند تمارس نوعا من الاقتصاد المغلق يعطي الدولة حقا اكبر في التدخل لادارة الاوضاع الاقتصادية.

مع تفكك الاتحاد السوفياتي وتقليص دور الدولة في العملية الاقتصادية، الذي طال الهند كما في بقية انحاء العالم، وتزايد التداخل مع الدورة الاقتصادية العالمية كما في حالة صناعة البرمجيات، فان مركز الثقل انتقل الى الولايات المتحدة، التي يتطلع اليها العالم لايجاد حل للمعضلة الكشميرية واطفاء احدى بؤر التوتر، التي تكتسب خصوصية بسبب المناخات النووية التي تحيط بها كون كل من البلدين يمتلك قوة نووية، يمكن ان يجد نفسه محشورا في زاوية ضيقة لاستخدامها.

ومع المفارقة في ان باكستان، التي قامت دولتها على اساس ديني يحكمها جنرال علماني، وان الهند التي بنت سمعتها في المحافل الدولية على تراثها الديمقراطي والعلماني يحكمها هندوسي اصولي متطرف، الا ان القوى الضاغطة في البلدين تبدو اقرب الى التطرف الذي تحركه حسابات محلية وآيديولوجية. فنفس القوى العسكرية والاستخبارية المسنودة بتيار سياسي محلي التي راهنت على خيار طالبان هي التي تدفع باكستان باتجاه كشمير. اما في الهند فان تنامي التيار الاصولي الهندوسي يرى في مسلمي طابورا خامسا ليس امامه الا الانفصال والالتحاق بباكستان او الخضوع الكلي للهيمنة الهندوسية، الامر الذي له انعكاسات على مجمل التجربة الهندية وتراثها الغاندي.

لكن واقع التحليل السياسي العملي يشير الى انه ليس لباكستان ولا للهند، وبالقطع ليس للولايات المتحدة اي مصلحة في اقامة دولة كشمير المسلمة المستقلة، تخوفا من ان تصبح بؤرة طالبان اخرى تؤثر حتى على باكستان نفسها.

وهكذا تعود الازمة الى المربع الامريكي تجاوزا لحالة الشك وعدم الثقة المتبادلة التي تحتاج الى طرف ثالث يشاركها بعضا من المصالح وله من النفوذ والقدرة ما يجعله يفرض الحلول فرضا على الاطراف المتصارعة، وهو الدور الذي تتهيا واشنطون للعبه من خلال الايقاع المتتابع لزيارات كبار مسؤوليها لنيودلهي واسلام اباد. وهو نفس الدور الذي فرض فرضا على الولايات المتحدة وادارة الرئيس جورج بوش تحديدا في الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي وفي السودان، رغم ترددها واستنكافها ووعود بوش الانتخابية ذات الصبغة الانعزالية ان على امريكا ان تكف النظر في متاعب العالم وتركز على شؤونها الخاصة والمحلية. ظروف الدولة العظمى الوحيدة في العالم لا يمكن ان تتيح لادارة بوش التمتع بترف مثل هذه الحالة الانعزالية، وجاءت احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) لتؤكد هذه الحقيقة. لكن المفارقة انه وحتى اشعار آخر يبدو ان ادارة بوش ذات القاعدة اليمينية سياسيا الاقرب الى التطرف المسيحي والرأسمالي، لا تزال تتمتع بسند من القاعدة الشعبية العريضة من الامريكيين في توجهها ذلك.

وتنبئ عن هذا الاستطلاعات المتتالية التي لا تزال تعطي بوش نسبة تاييد شعبي عالية تتجاوز 70% في كيفية ادارة حربه ضد الارهاب، والتأييد القوي لفكرة انشاء وزارة للامن الداخلي والاستعداد لاعطاء صلاحيات اكبر لمكتب المباحث الفيدرالي للقيام باعمال استخبارية في الداخل حتى وان اثرت على الحريات الشخصية للمواطنين.

الهجمات الانتحارية على نيويورك وواشنطون يفترض ان تكون قد ارسلت رسالة واضحة ان بقية العالم المازوم ليس على استعداد لترك الولايات المتحدة في حالها حتى وان رغبت هي في الاستقلال عنه، لكن يبدو ان هذه الرسالة لا تزال تتلمس طريقها ببطء وسط الامريكيين، الذين لم يزد اهتمامهم بتتبع ما يجري في العالم الخارجي بالطريقة التي تتناسب مع حجم الاحداث التي انتقلت اليهم في عقر دارهم من قبل اجانب.

فالاهتمام الاعلامي بما يجري في الخارج الذي وصل قمته ابان فترة الحرب الباردة تراجع بصورة واضحة. وفي استبيان اجري اخيرا عن متابعة الامريكيين للتغطيات الاخبارية العالمية، اوضح 21% فقط انهم يتابعون ما يجري في بقية انحاء العالم، ورغم ان النسبة تعتبر مرتفعة عن نسبة 14% من الذين اجابوا على نفس السؤال قبل عامين، الا ان حدوث الهجمات الانتحارية كان يفترض ان يغير من الصورة قليلا ولو لمعرفة الاسباب، وربما يعود ذلك الى قول 41 في المائة انه ليست لديهم الخلفية اللازمة لمتابعة التطورات العالمية. الدور النشط للشركات ذات البعد العالمي يمكن ان يكون له دور في تغيير وجهة واشنطون الانعزالية، وربما تكون كشمير مرحلة في هذه الرحلة الطويلة، التي تعكس في بعض جوانبها الصراع بين العولمة والتيارات المحلية والانعزالية. ومن المفارقة ان تصبح كشمير، وهي إحدى اشد المناطق عزلة في العالم، ميدانا لصراع العولمة هذا. على ان هذا ليس بغريب، فذات الصراع يدور في واشنطون التي تعتبر في النهاية بؤرة العالم في الوقت الحالي. فالصراع، في النهاية، صراع رؤى وافكار قبل ان يكون صراعا جغرافيا.