البدايات الصعبة للحداثة الفرنسية

TT

كيف انبثق التنوير في فرنسا؟ كيف انتقلت فرنسا رويداً رويداً من عصر الأصولية الكاثوليكية المطلقة الى عصر الايمان المستنير والفكر العقلاني؟ يرى بعض كبار المؤرخين المعاصرين ان فونتنيل (1657 ـ 1757) كان أول من احتفل بموضوع عصر التنوير.

وكانت ثقته بالجنس البشري ومستقبله تعود الى التقدم الذي حققه العلم في عصره، وبخاصة العلم الرياضي والفيزيائي، وعلى الرغم من حذره ورزانته الا انه عبّر عن فرحته الغامرة بالتحولات التي طرأت على الحياة الثقافية الفرنسية. يقول مثلاً: «منذ فترة قصيرة انتشرت في بلادنا روح فلسفية جديدة كلياً تقريباً. انها عبارة عن نور لم يتح لأسلافنا ان يستضيئوا به، وكان من حظنا». وفي مكان آخر يقول ايضاً: «نحن مستضيئون بأنوار الدين الحقيقي، وأعتقد ببعض أشعة الفلسفة الحقيقية. نحن الآن أكثر استنارة بألف مرة من أناس العصور السابقة الذين اخترعوا الخرافات والخزعبلات».

هكذا نلاحظ ان فونتنيل كان يشعر بأنه يعيش في عصر مستنير على الأقل في مجال الفلسفة وبخاصة بعد ديكارت، ثم في مجال العلوم والنقد التاريخي. ولكن حتى لحظة فونتنيل فإن مفهوم التنوير لم يكن ينطوي على اي نقد ـ صريح على الأقل ـ للفكر الديني. والواقع ان فونتنيل عاش وكتب بشكل اساسي في النصف الأول من القرن الثامن عشر. ونحن نعلم ان المعركة بين العقلانيين والمتدينين لم تندلع فعلياً إلا في النصف الثاني منه، وبخاصة بعد عام (1760) عندما أخذت تصدر كتب روسو الاساسية، وكذلك كتب ديدرو وفولتير، والبارون دولباك، وعديدين سواهم. صحيح ان مفهوم القرن المستنير أو عصر الأنوار كان موجودا في النصف الاول من القرن ولكنه لم يتحول الى شيء يشبه القاعدة أو الى شعار الا بعد نصفه الثاني، ويبدو ان سبب ذلك لا يعود الى بعض الاحداث السياسية والاجتماعية التي حصلت، وانما الى حدث فكري اساسي هو: صدور الانسيكلوبيديا الشهيرة، اي الموسوعة التي اشرف عليها ديدرو (1713 ـ 1784). فهذا المشروع الفكري الكبير هو الذي جمع التنويريين حوله من شتى المشارب والاختصاصات، ومعلوم ان البيان التمهيدي للموسوعة والذي كان ديدرو قد كتبه صدر عام (1750)، واما الخطاب الافتتاحي فقد صدر بخط دالامبير عام (1751). والموسوعة بكل اجزائها ليست الا تجميعا لمنجزات التنوير التي كانت قد حصلت طيلة نصف القرن الماضي. انها محصلة ختامية لجميع المعارف والعلوم التي كانت متوافرة في ذلك العصر. وفي الخطاب الافتتاحي الذي يستحق دراسة خاصة يرى دالامبير (1717 ـ 1783) ان عصر النهضة كان هو العصر التنويري الاول الذي مهد للقرن الثامن عشر، وبالتالي فنحن مدينون له. ثم جاءت محاكم التفتيش في القرن السابع عشر وكذلك التيار الكاثوليكي المتعصب والمضاد للاصلاح الديني، ولكنهما لم ينجحا في خنق هذا النور أو التنوير الذي كان قد لمع في عصر النهضة. فشعلة التنوير ظلت متقدة على الرغم من كل المحاولات التي بذلها المتزمتون الغلاة من أجل القضاء عليها. نلاحظ ان كلمة الانوار ترد كثيرا في الموسوعة الشهيرة. ففي احدى مقالاتها يقيم ديدرو تضاداً بين العصر المستنير / وعصر الظلمات والجهل وفي مكان آخر يرد على أولئك الذين يخشون من ان تنتكس البشرية الاوروبية وتسقط في الظلمات مرة أخرى ويقول: «لا داعي لهذا الخوف، فظلمات الجهل لم تنحسر في اي عصر كما حصل في عصرنا، والفلسفة تتقدم بخطوات عملاقة، والتنوير يصاحبها ويتلوها». وفي مكان آخر يقول ديدرو «بأن الفلسفة الصحيحة التي ينتشر نورها ويشع في كل مكان أخذت تدخل أكثر فأكثر الى الأديرة والكنائس المسيحية». واما غريم Grimm (1723 ـ 1807) صاحب مجلة «المراسلات الأدبية» وصديق ديدرو وروسو فيحتفل بالتنوير طبعا ولكنه يبدو أقل تفاؤلا من جماعة الموسوعيين. والواقع انه مر بعدة مراحل. ففي البداية كان أكثر حماسة منهم، وكان يجدهم وجلين أو خجلين أكثر مما ينبغي. ففي عام (1755) انتقد الخطاب الذي ألقاه دالامبير في الاكاديمية الفرنسية اثناء استقباله كعضو لأنه لم يلحّ على انتصار التنوير بالدرجة الكافية. ويبدو انه ـ اي دالامبير ـ كان يخشى من رد فعل المحافظين الذين يشكلون الاغلبية في هذه المؤسسة الفرنسية العريقة. وقال: «غريم» ما معناه: كان ينبغي عليه ان يركز على بؤس الأزمنة الظلامية والهمجية السابقة، حيث كانت الخرافات تسيطر على عقلية المسيحيين، وفي ذات الوقت كان ينبغي عليه ان يتحدث عن هذا النور الناعم والرؤوف الذي اصبح يضيء البشر هذه الازمنة الاخيرة، اقصد نور الفلسفة والعلم. وفي مكان آخر أشار الى دور البروتستانتيين في نشر التسامح والتنوير ومحاربة التعصب الديني والطائفي. فتحت تأثيرهم جاء التنوير لكي يبدد الظلمات. ولكنه في ما بعد أصبح أقل تفاؤلاً وحماسة من ذي قبل. فهل تعب «غريم»، أم هل يئس من محاربة التعصب والمتعصبين؟ يقول مثلاً عام 1757: «هناك نوع من البشر، وهم الأغلبية، ممن لا يؤثر فيهم التنوير الفكري. انهم يظلون مصرين على الجهل والتعصب». بل ويصل الأمر به الى حد اعتبار القرن الثامن عشر بأنه عصر غير مستنير، أو غير مستنير بما فيه الكفاية. يقول مثلاً عن اليسوعيين، الاعداء الألداء للفلاسفة: «من الطبيعي ان ابناء الظلام يخشون النور ويكرهون أولئك الذين ينشرونه بين البشر».. ويقول في مكان آخر: «ان أول هدف من أهدافهم ـ اي اليسوعيين الكاثوليكيين ـ هو حذف التنوير والعلم من على سطح الأرض».

ولكن بعد عام 1765 تغير شيء ما في نفسية «غريم». فلم يعد متفائلاً كما في السابق، واصبح اكثر خيبة ومرارة، ولم يكن ذلك لأنه اصبح يشك في التنوير وانما لأنه اصبح يشك في قدرة البشر على استقبال التنوير أو استيعابه. يقول مثلاً: «ان لحظات التنوير قصيرة جداً في تاريخ البشرية». أو يقول: «ان تنوير شعب ما ينحصر بالضرورة في قلة قليلة أو في نخبة معينة. واما اغلبية البشر فيصعب تنويرهم».. لماذا أخذ اليأس يدب الى نفسية «غريم»؟ لأن الاحداث الطائفية التي حصلت في فرنسا آنذاك كانت مزعجة فعلاً وتدل على ان التعصب راسخ في النفوس ويصعب اقتلاعه. ففي تلك الفترة حصلت مشكلة عائلة «كالاس» البروتستانتية التي اضطهدت بشكل مرعب من قبل الاغلبية الكاثوليكية في مدينة تولوز. وحصلت ايضا بعض القضايا الأخرى كقضية «سيرفين»، و«لابار»، وسواهما، وهم أشخاص أحرقوا أو قتلوا بتهمة الخروج على المسيحية أو عدم التقيد بشعائرها وطقوسها. وقد دلت هذه الحوادث على ان أغلبية الشعب الفرنسي لا تزال بعيدة عن الاستنارة، وان التنوير يقتصر على نخبة من الفلاسفة والمثقفين فقط. وقد وصل الأمر بأحد القضاة في مدينة تولوز الى حد الثناء على التعذيب باعتباره وسيلة فعالة لاجبار الاقلية البروتستانتية على تغيير مذهبها واعتناق مذهب الاغلبية: اي المذهب الكاثوليكي. وعندئذ جن جنون «غريم» وقال: «سوف تلعننا الأجيال القادمة وتحكم علينا بتهمة البربرية والهمجية، نحن الذين ندعي اننا ننتسب الى عصر فلسفي عقلاني»!. ولكنه بعد ذلك بقليل تراجع عن هذا التشاؤم وعاد الى تفاؤله الأول وقال: «نحن أفضل من آبائنا، وأبناؤنا سوف يكونون حقاً أفضل منا من حيث التنوير والابتعاد عن التعصب».. ولكن التشاؤم عاد اليه بعد عام 1770 من جديد! وهذه المرة لن يتركه على ما يبدو، فطريق التنوير طويلة، ودربه وعرة، والنتيجة غير مضمونة سلفاً على عكس ما كان يتوهم. ذلك ان الظلاميين يترصدون الفكر الحر على قارعة الطرق، وعندما تحين الفرصة فإنهم سيضربون بكل قوة بحجة محاربة الالحاد، أو الدفاع عن الايمان، ايمان الآباء والأجداد وهم في الواقع يحاربون حرية الفكر والضمير، وعندما حانت الذكرى المئوية الثانية لمجزرة سانت بارتيليمي الشهيرة (24 أغسطس 1772) كتب «غريم» يقول: «نحن نفتخر كل يوم بالتقدم الذي تحققه الروح الفلسفية والعقلانية في بلادنا. ولكن هذا التقدم لم يتغلغل بعد الى صفوف العامة ولا يزال محصوراً بالنخبة من المفكرين. وليس الاصوليون هم وحدهم الذين يلعنون التنوير، وانما الحكومة ايضا تخشاه وتحاول عرقلته».. وفي مكان آخر يقول معبراً عن يأسه ومرارته: «ان تاريخ الجنس البشري سيكون ابدياً الشيء نفسه.. فالخرافات والتعصب الديني ليسا فقط وباءين يجرهما اللاهوت المسيحي على اثره بالضرورة. وانما هما مرضان من أمراض الروح البشرية.. انهما مرضان مترسخان فيها ويستعصي علاجهما».. ثم يقول ايضا هذا الكلام المعبر: «البشر بشكل عام لم يخلقوا للحرية ولا للحقيقة على الرغم من انهم لا ينفكون يتحدثون عنهما.. والواقع ان الحرية والحقيقة لم تخلقا الا لنخبة الجنس البشري التي يمكن ان تتمتع بهما بشرط الا تتبجح كثيرا بذلك. اما بقية البشر، اي الاغلبية العظمى فلم يخلقوا الا للعبودية والضلال».