المفكرون وحرب شارون

TT

إلى حد هذه الساعة، يمكن القول ان المفكرين والمثقفين الفرنسيين كانوا الاكثر ادانة في اوروبا لحرب ارييل شارون ضد الفلسطينيين، اذ لا يكاد يمر يوم واحد دون ان نقرأ في الصحف والمجلات الواسعة الانتشار لأسماء لامعة في مجال الأدب والفكر والثقافة، او نسمع لهم تصريحات عبر وسائل الاعلام السمعية والبصرية، ينتقدون فيها بشدة تصرفات الجيش الاسرائيلي في المخيمات والمدن الفلسطينية، ويدعون فيها الى ضرورة احترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، داعين الدول الكبرى، خصوصا الولايات المتحدة الاميركية للتدخل فوراً من اجل اعادة الاعتبار للسلام والامن في منطقة الشرق الأوسط. وقد اثارت هذه المواقف الشجاعة والصريحة غضب العديد من الشخصيات السياسية والثقافية الاسرائيلية فكان ردها على ذلك ان المشاعر المعادية للسامية بدأت تكتسح فرنسا بل اوروبا بأسرها كما كان الحال في الحقبة النازية، بل ان بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء السابق خاطب اعضاء الكونجرس الامريكي قائلاً: «ان اوروبا غضت الطرف عن تصفية ملايين اليهود خلال الحرب الكونية الثانية. وهي الآن تفعل الشيء ذاته في الوقت الذي تواجه فيه اسرائيل قوى سوداء شريرة تسعى لمحوها من الوجود».

والحقيقة ان مواقف المفكرين والمثقفين الفرنسيين كانت خالية كليا مما يسميه الاسرائيليون بـ «المشاعر المعادية للسامية»، والتي يلجأون اليها دائما كلما وجدوا انفسهم في موقف حرج، أو كلما أرادوا تبرير سياساتهم الظالمة، والدفاع عنها، واكبر دليل على ذلك هو ان جل هؤلاء المثقفين والمفكرين اظهروا خلال فترات مختلفة ومتعددة تعاطفاً مع اسرائيل وشعبها، ووقفوا الى جانبها مساندين ومؤيدين في العديد من صراعاتها وحروبها ضد الفلسطينيين والعرب. غير انهم اختاروا في هذه المرة معارضة سياسة القوة التي انتهجها وينتهجها ارييل شارون، والمطالبة باحترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، اذ بدون ذلك سيظل السلام امراً مستحيلاً في منطقة الشرق الأوسط. ويمكن القول ان النص المشترك الذي حمل عنوان: «اسرائيل ـ فلسطين: السرطان» لكل من ادغار موران، عالم الاجتماع المعروف، وسمير نصير، المفكر، والنائب في البرلمان الاوروبي، ودانيال سالتاف الكاتبة والاستاذة في جامعة باريس العاشرة. يلخص مجمل مواقف المثقفين والمفكرين الفرنسيين من الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني الراهن، وفي بداية هذا النص، نحن نقرأ: «في الذي عانى من الاضطهاد في الماضي، نجد الذي يمارسه اليوم. هذا ما قاله فيكتور هوغو. واسرائيل تبرز نفسها كما لو انها الناطقة باسم اليهود، ضحايا الاضطهاد عبر فترات مختلفة من التاريخ، والذي بلغ اوجه خلال الحقبة النازية. وولادة هذه الدولة التي هوجمت من قبل جيرانها العرب كادت تؤدي الى موتها، ومنذ نشأتها، اصبحت اسرائيل قوة اقليمية هائلة، تتمتع بتأييد الولايات المتحدة الامريكية، وتمتلك السلاح النووي، ومع ذلك فإن شارون يزعم ان هدفه هو البقاء على وجود اسرائيل، وذلك عبر قمع الفلسطينيين، وخنقهم، وتدمير المدارس وارشيف الوزارات والمؤسسات، وقنوات المياه، وارتكاب مجازر في جنين مانعاً وسائل الاعلام العالمية من التعرف على تفاصيل ذلك ـ (...) غير ان شارون باعتقاده انه يحمي وجود اسرائيل بواسطة الارهاب لا يفعل شيئاً آخر غير تعريض حظوظ هذا الوجود للخطر. ان شارون «يجهل ان انتصار اليوم هو في الحقيقة الانتحار غدا». ويواصل المثقفون الثلاثة كلامهم قائلين: «ان الوعي بأن اليهود كانوا ضحايا هو الذي يسمح لاسرائيل بأن تصبح قوة قمع واضطهاد بالنسبة للشعب الفلسطيني. وكلمة Shoah التي تميز المصير المضحي لليهود والذي يبتذل ويحقر من شأن مصائر ضحايا آخرين مثل الغجر والزنوج المستعبدين والهنود الحمر وضحايا القمع الستاليني (نسبة الى ستالين) يصبح امراً يشرع الاستعمار والتمييز العنصري والتهميش بالنسبة للفلسطينيين». ويندد المثقفون الثلاثة بسياسة الاستيطان التي تنتهجها اسرائيل، معتبرين ذلك حجر عثرة امام السلام بالنسبة للمنطقة، وقد ازدادت هذه السياسة حدة وهمجية حسب رأيهم عندما عينت الدولة العبرية على رأس جيشها ضباطاً برتب عالية يتحدرون من المستوطنات. وقد وجد هؤلاء الفرصة سانحة لكي ينشروا الرعب في المخيمات والمدن الفلسطينية منتهجين سياسة حقيقية للتدمير والنهب والتخريب. وهذا ما ضاعف من غضب الفلسطينيين واعطى شرعية للعمليات الارهابية الانتحارية لدى المنظمات الاصولية المتطرفة مثل «حماس» و«الجهاد الاسلامي». ويعارض المثقفون الثلاثة وسائل الاعلام العالمية، الغربية منها بالخصوص والتي تتحدث عن «حرب اسرائيلية ـ فلسطينية» في حين ان الأمر لا يعدو ان يكون مواجهة بين قوة تمتلك السلاح النووي، والأسلحة الأكثر تطوراً والمتمثلة في اسرائيل، وقوة لا تمتلك غير الحجارة، والاسلحة الخفيفة والمتفجرات المصنوعة بطرق بدائية، والمتمثلة في الفلسطينيين.

وفي نفس هذا الاتجاه، يواصل المثقفون الثلاثة كلامهم قائلين: «ان هذا التماثل الخاطئ يحجب الحقيقة التالية وهي ان القانون والعدالة لا بد ان يكونا الى جانب المضطهدين. انه يضع القوتين المتصارعتين على نفس المستوى في حين ان هناك قوة تحارب الأخرى التي لا تمتلك الوسائل للمواجهة الا من خلال عمليات ارهابية محدودة او اخرى لمجرد الدفاع عن النفس».

ويرفض المثقفون الثلاثة كلمة «الارهاب» التي تلوح بها اسرائيل للعالم بأسره لتبرير حربها ضد الفلسطينيين ويكتبون: «ان كلمة «ارهاب» وقع استعمالها من قبل المستعمرين والمستوطنين والغزاة للتحقير من شأن المقاومة الوطنية لدى هذا الشعب او ذاك. وبعض الحركات النازية مثل تلك التي ظهرت خلال الحقبة النازية، قامت ببعض العمليات الارهابية التي استهدفت مدنيين بالاساس غير انه من الخطأ ان نتعامل مع الحركات الوطنية كما لو انها فقط حركات ارهابية. وبالخصوص، ليس هناك اية مقارنة بين ارهاب يقوم به سريون وارهاب تقوم به دولة تمتلك اسلحة الدمار الشامل». يعنون بذلك اسرائيل.

ويثمن المثقفون الثلاثة مبادرة الأمير عبد الله الخاصة بسلام دائم وشامل بين العرب والاسرائيليين، ويكتبون: «ان المبادرة السعودية التي تقوم على اعتراف نهائي بحق اسرائيل في الوجود مقابل عودة هذه الاخيرة الى حدود 1967 استناداً الى جميع قرارات الأمم المتحدة في هذا الشأن يمكن ان تكون بابا ليس فقط لسلام شامل بين امم المنطقة ولكن ايضا لسلام بين الاديان، خصوصا ان الداعية لهذا المشروع الجديد للسلام هي المملكة العربية السعودية راعية الحرمين الشريفين».

ويختتم المثقفون الثلاثة قائلين: «ان المشكلة ليست فقط مشكلة شرق ـ اوسطية. ان منطقة الشرق الأوسط منطقة زلازل بالنسبة للعالم باسره حيث يتواجه الشرق والغرب والشمال والجنوب والفقراء والاغنياء واللائكية والدين أو الاديان في ما بينها. وكل هذه التناقضات يمكن ان ينشرها السرطان الفلسطيني ـ الاسرائيلي في العالم بأسره. وقد بدأت مخاطر هذا السرطان تظهر بوضوح في العالم الاسلامي، وفي اسرائيل وفي العالم المسيحي، والمشكلة ليست فقط ان الحقيقة والعدالة شيئان متلازمان، وانما هي ايضا مشكلة ان هناك سرطانا يقرض عالمنا ويؤدي بنا الى كوارث عالمية متعاقبة».