الرجولة في زمن التحولات

TT

للجمعيات النسائية أن تقول ما تشاء حول سلطوية الرجل وتعنته، وللرجل أن يستمر في التهويل والتهديد «شفاهياً»، بأنه لن يتزحزح قيد أنملة عن مواقعه المحصنة، التي ورثها أباً عن جد . لكن الكلام شيء والوقائع هي أمر آخر. والمجتمعات العربية، على ما تعطيه من انطباع بالجمود، هي في مهب رياح التغيير التي تعصف بها من كل صوب. والرجال ومعهم النساء أيضاً، هم أعجز ـ ولو رغبوا ـ من أن يقاوموا تأثير الأغيار (الخارج) وما يتأتى عنه من تحولات في الأدوار (الداخل).

فالرجولة العربية، المنفوخة العضلات، تقلصت قواها بفعل المدنية. والشارب الطويل المعقوف، الذي يمسك به «القبضاي» ويفتله بكبرياء وهو يحدث أقرانه عن عنتريات و«كلام رجال»، هذا الشارب قصّت جوانحه، ثم أخذ يتضاءل ويتقزم حتى اختفى أثره. وما عاد بإمكان غالبية الرجال أن يقولوا عبارتهم الأثيرة والواثقة «خذها من هاللحية»، حين يريدون التأكيد على سلطتهم التنفيذية، إذ ان اللحية كانت قد جرفتها شفرات الحداثة قبل أن تأتي على ما تبقى من الشارب.

ومن ذكورية المظهر العتيق لم يبق الكثير، لا بل ان الرجل لا يبدو عنيداً أو متأزماً وهو يخوض مغامرة إسقاط تمايزه الصوري، ويتقبل بصدر رحب أن يدخل تجربة الـ«يونيسكس» من أوسع أبوابها، ويتقاسم مع المرأة البنطلون والسترة والتيشورت والعطر والنظارة والسيارة ذات الاستدارات الأنثوية. والبعض القليل استهواه التقارب فلم يعفّ عن الأساور والسلاسل وصولاً إلى حلق الأذنين.

وبما ان المرأة قد اتخذت خطوات مماثلة حين قصت شعرها، واستبدلت فستانها بالبدلة ذات الصيغة الرجالية، وارتدت القمصان، وتمردت على الكعب العالي باسم الحرية والديناميكية، فإن الحدود الخارجية، آخذة في التهاوي، وهو ما ينبئ بأن ثمة ما هو أهم من الشكل وأبعد مغزى. وبما اننا مجتمعات متروكة للتخمين والافتراضات الاعتباطية، في غياب الإحصاءات والدراسات التي ترصد كل جديد، فمن العسير جداً فهم ما آلت إليه الرجولة العربية، ومدى الهوة الفاصلة بين أقوالها وما تضمره في سكينتها. والأعسر من ذلك هو استبطان حال العلاقة بين الجنسين، ومعرفة سبب ازدياد قلق المرأة وتذمرها، رغم أن رجلها يزداد بها شبها، بعد أن رقّت يداه، ونعم وجهه، وباتت عيناه فاترتين، واكتسبت كلماته هدوءا غير مألوف. الفتيات اللبنانيات مثلاً، لهن ردة فعل قاسية، ويعتبرن أنهن ينظرن حولهن فلا يعثرن على رجل. وعبارة «ما في رجال» شائعة ومكرورة بين الشابات. أما الشبان فيعتبرون ان الفتاة الجديدة ليست أهلاً للثقة. والنتيجة أن نسبة الزواج إلى انخفاض، ومعدل حالات الطلاق ترتفع صعوداً متواتراً حتى وصلت إلى 12 في المائة العام الماضي. وهو ما يعني ان ربع الذين يتزوجون تقريباً ينتهون إلى فراق. والمشكلة ليست لبنانية بالضرورة، فالمرأة شرقية وغربية، باتت تتطلع إلى رجل عصري ومنفتح وحرٍ يرى فيها نداً له، شرط أن لا يخلخل ذلك كله دوره كصدر دافئ وحام للحمى عند المآزق، وبالتالي فليس سهلاً ان تكون رجلاً مرضيّاً عنه من قبل النساء هذه الأيام، كما أنه ليس من السهل ان تكون امرأة كذلك. فالرجل يطلب المستحيل حين يريد من شريكته تفوقاً في المهنة والزوجية والأمومة والمطبخ والعلاقات الاجتماعية، على أن تبقى جميلة ومرحة ومهيضة الجناح. ولما كان جمع الأضداد من المحال، فها هن الفرنسيات يصرخن في الريبورتاجات الصحافية: «ماذا فعلنا بالرجال كي يفقدوا رجولتهم؟». وإذا كان تعريف الأنوثة ما يزال متاحاً، فالحق يقال إن تعريف الرجولة هو من الصعوبة بمكان، بعد أن اختلطت الأوراق وامتزجت الطقوس والأعراف. ولا يغرنك الكلام عن المساواة الذي طبق صيته الآفاق، فها هن السيدات الفرنسيات اللواتي يكسبن مرتبات أعلى من أزواجهن (ولا يزيد عددهن عن 12في المائة) يعترفن أن هذا الواقع يشعرهن بالامتعاض والإرباك، ويفضلن وضعاً معكوساً يؤمن لهن توازناً نفسياً مع شركائهن. أوليس في هذا الكلام ما يدعو إلى الحيرة، ويؤكد أن مشروع إعادة ترسيم الحدود بين الجنسين هو من التعقيد بحيث يستحيل انجازه بالقلم والمسطرة، كما هو حال معظم الحدود الجغرافية العربية التي لم تحترم التضاريس الطبيعية للأرض ومنطق الجبال والأنهار والبحار والصحارى، فجاءت قاصمة وموجعة. ما نزال نتعثر في الخطوة الأولى من رحلة الألف ميل، التي لا بد أن تفضي ـ أو هكذا نأمل ـ إلى إسقاط هذه الحاجة النفسية المريبة لدى الطرفين لتأكيد دونية المرأة ـ رغم الاعتراف بإنسانيتها ـ كي ترفرف حمامة السلام على العلاقات الثنائية بين الجنسين. وبينما نصل إلى بر الأمان، ها هي ملامح الضحايا تختلط بقسمات الجلادين، وأصوات القامعين تمتزج بصرخات المقموعين وتبرز فئة المستقيلين كعلامة فارقة لهذا العصر. إذ ما عاد يندر أن تجد رجلاً مد رجليه واستراح بحجة إيمانه بالمساواة، وادعائه انه باسم الحرية والليبرالية يترك لزوجته المهمات كلها التي كان والده ووالدته يجهدان ويكدان للقيام بها ولا يفلحان. وبين النساء الميسورات من اعتبرن المساواة هي في الكفّ الكلي عن القيام بمهام المرأة التقليدية واختيار مشاغل أخرى، فسلمن المنزل والأولاد للخادمة والمربية والطباخ والسائق وامتهنّ التبضّع والتسوق والتجمّل وتبادل الزيارات صبحاً وعشية. لقد قال أفلاطون يوماً، ان في كل رجل جزءاً أنثوياً، ولكل امرأة جانبها الذكوري، وكان لا بد من ثلاثة الآف سنة كاملة كي يثبت العلم ان هذه النظرية الأفلاطونية حقيقة هرمونية وعضوية، وان الجنسين يلتقيان على أرضية مشتركة واسعة وبحبوحة تماثلية، كانت المبالغة في تقزيمها ومسخها، محض مناورات سلطوية ماكرة، أما اليوم وان العولمة تبشر برفع الحواجز ودك السواتر، فالحاجة ماسة إلى وضع هذا المشترك تحت عدسة مكبرة، واعتماده كأرضية خصبة لبذار مستقبلي سوي ومتوازن، لأن رجل اليوم يبدو كأنه قد تعب من لعب دور البطولة المطلقة، وما عاد يطيق أن تنتظره فتاته الحالمة آتياً على فرس جموح، بينما هو في حقيقة الأمر، لا يجيد ترويضاً ولا يملك فرساً، وربما كان لا يملك حتى سيارة، ولا يضيره في شيء أن تخطفه فتاة الأحلام بسيارتها، وتأخذه في نزهة عليلة ليقول لها وقد انهكته المرارة واغتاله التعب وأرخى برأسه على كتفها: ألا تعتقدين معي بأنه قد آن لهذا الفارس المقدام أن يترجل.

[email protected]