الحكومات القوية وحدها القادرة على اقتحام الإصلاحات

TT

لم تكن مغامرة مني أن أتوقع في المقال السابق، أن تكون الخريطة البرلمانية القادمة، من جديد «مبلقنة»، وهي العبارة التي يصطلح عليها في المغرب، للكناية على برلمان متفتت. وكما يقرأ الكتاب من عنوانه، فإن الانتخابات التي ستجرى في سبتمبر القادم، يمكن تصور نتائجها، من التقطيع الانتخابي، ومن انعدام تحالفات سياسية قبلية.

ووضع مثل هذا لن يعطي حكومة قوية، مثل التي تتطلبها الأوضاع المغربية، التي تطرح ضرورتين، التغلب على الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية، وربح معركة التأهيل للاندماج في الاقتصاد العالمي، عبر الشراكة مع أوربا بمقتضى اتفاقية منطقة التبادل الحر مع الاتحاد الأوربي، التي ستدخل حيز التطبيق في 2010 أي بعد ولايتين برلمانيتين.

وإذا كانت مواصفات الحكومة القوية معروفة، وفي طليعتها وجود أغلبية واضحة، فإن مواصفات الحكومة غير القوية، معروفة بدورها، ويمكن استقاؤها من الواقع المغربي القريب والملموس.

وقد أخذ المغرب بأسباب تغيير الواقع المتدهور الذي وجد نفسه فيه، بالإقدام على الإصلاح السياسي والدستوري الذي أنجزه في .1992 فبمقتضى ذلك الإصلاح تم تعديل الدستور الذي أصبح يخول صلاحيات مهمة للحكومة وعزز دور البرلمان. وأهم ما حدث حينئذ، هو أنه أصبح ممكنا إقامة حكومات ذات طابع سياسي نابعة من الخريطة البرلمانية التي يفرزها الاقتراع. وقبل المرحوم الحسن الثاني جل مقترحات الكتلة الديموقراطية التي كانت تصب في هذا المضمار. فجعل تنصيب الحكومة مشتركا بينه وبين مجلس النواب، وجعل تأويل الدستور مشتركا بينه وبين المجلس الدستوري، وقبل أمورا مهمة وردت في مذكرة أكتوبر (تشرين الاول) 1991 لحزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، ومذكرة الكتلة الديموقراطية في يونيو (حزيران) .1992 وكل هذا مع إبقاء الفصل التاسع عشر من الدستور مجسما لأولوية الملك كقائد للأمة وموجه لها، الأمر الذي لم يكن موضع جدال.

أقر الملك والنخبة السياسية بأن ضبط السلطات وتنظيم العلاقات بين المؤسسات في حاجة إلى عقلنة، مما فتح الباب أمام مفهوم التوافق الذي سهل الإقدام على الإصلاح السياسي والدستوري في جو من السكينة. وبفضل تفويت الملك لصلاحيات جديدة لكل من الحكومة والبرلمان ظهر من جهة، أن الملك ينطلق من فلسفة مفادها، كما عبر عن ذلك مرارا، أنه كلما رأى الملك الظروف ناضجة أقدم على خطوة لتطوير المؤسسات والآليات. ومن جهة أخرى، ظهر أيضا أن هناك عزما على القطع مع تجارب الماضي القريب حيث كانت الحكومة وكأنها حكومة، والبرلمان وكأنه برلمان، إذ أن المؤسسات كانت تكاد تفرغ من المحتوى، بسبب تزوير الانتخابات، عبر أحزاب تصطنع لتؤثت هذا وذاك لضمان خريطة برلمانية تكون تحت المراقبة.

وهاهو خلفه محمد السادس يقدم على خطوة جديدة في استكمال البناء الديموقراطي بإنهاء الشكوى العامة والمتكررة من فساد العمليات الانتخابية، حيث قرر بحزم أن تجري الانتخابات القادمة في جو من النزاهة والشفافية، وإعفاء وزارة الداخلية من مهمة تكوين خريطة برلمانية مأمونة.

وقد أدرك العاهل أن الخريطة البرلمانية لن تكون إلا مأمونة، بحكم التطور الذي حدث في البلاد، واقتناع النخبة بأن المصير مرتبط بالاستقرار في ظل أجهزة قوية بعدما ظهر أن السبيل إلى تلافي العطب، هو إقامة حكومات سياسية، انسجاما مع مقتضيات الدستور المعدل في .1992 وفي سياق ذلك التعديل أصبح واردا إقامة حكومات سياسية وقوية. وقد قلنا إن هناك علاقة سببية بين الملكية القوية والحكومة القوية. ويطرح الأمر الآن في ظروف تختلف كثيرا عما كان عليه الأمر في الستينات، حين ذهبت الاجتهادات بجزء من الحركة الديموقراطية بعيدا جدا، إلى حد الجنوح إلى تصورات لم يتقبلها الوضع المغربي. وحينما كانت المفاوضات النشيطة تجري في التسعينات حول الإصلاح السياسي والدستوري، كان النقاش يدور حول أمور عملية تتعلق بتنظيم المشاركة في تسيير البلاد من خلال المؤسسات.

وتضمنت مذكرة أكتوبر 1991 مثلا أفكارا تنصب على طريقة عمل الحكومة وصولا إلى تقويتها. وخامرت النخبة حينذاك فكرة إحداث آلية تؤدي إلى قيام حكومة منسجمة ملتزمة ببرنامج، تكون إزاءها مؤسسة برلمانية تقوم فيها المعارضة بمساءلة الحكومة، ويمكن لعشر أعضاء البرلمان أن يمارسوا ملتمس الرقابة (طرح الثقة).

وكان في تصور محرري تلك المذكرة أن الحكومة، حتى ولو لم تحصل على الأغلبية في البرلمان، يجب أن تكون، على أي حال، منسجمة في مكوناتها. فاقترحت مذكرة حزبي الاستقلال والاتحاد، مثلا أنه في حالة ما إذا لم يحصل الوزير الأول على الأغلبية المطلقة في مجلس النواب، يعود من جديد أمام المؤسسة البرلمانية بعد أسبوع لعرض البرنامج، وتكفيه حينئذ الأغلبية النسبية ليحصل على التنصيب. أي أن الغرض كان منذ البداية هو وجود فريق حكومي منسجم من حيث البرنامج، يتحمل مسؤوليته أمام الملك والبرلمان.

إن الداعي إلى التطلع إلى حكومة منسجمة وقوية، هو ما عشناه على عهد حكومات التقنوقراط غير المسؤولة، والمستلبة التي لم تكن تتوفر لديها الأجوبة عن الأسئلة التي تطرح عليها.

وكانت تلك الحكومات تعمل في مجال تكتنفه اختراقات لا حد لها. والنتيجة هي الخلل في التسيير، حيث كانت تصدر قرارات متضاربة تتخذ في عدة مستويات ومن عدة مراكز. ويكون لا مناص عندئذ من حدوث تبذير وتسيب. وبقي شيء من ذلك في الدواليب. فنحن حتى الآن لا نعرف من نحاسب عن الأموال العمومية التي أنفقت لترويج مشروع استضافة المغرب لكأس العالم في كرة القدم. كما أن حالة مؤسسات القطاع العام، كما كشفت عن جوانب منها لجنتان للتحري في مجلسي النواب والمستشارين، تنبئ عن وقوع تسيب ونهب صارخين مارسهما أفراد وجماعات كانوا مطمئنين إلى أنهم بعيدون عن المحاسبة والعقاب، بل عن مراقبة الحكومة.

وهذا وضع يمكن أن يستمر ويتجدد في أشكال أخرى إذا لم تكن هناك حكومات قوية ومنسجمة، إزاءها معارضة تنهض بمسؤوليتها، ومن المجموع تتأسس الدعامة الضرورية للمفهوم الجديد للسلطة كما طرحه الملك. إن المكسب الذي سيتحقق في انتخابات سبتمبر القادم يكمن في أن الخريطة البرلمانية ستكون حقيقية. وبالتالي سيتحرر الجسد السياسي المغربي من فيروس التزوير. ويبقى بعد ذلك أن تتقوى الأحزاب السياسية لتقوم بدورها الدستوري. والظروف الآن مواتية، إذ لم تبق الأحزاب السياسية مجرد منابر للاحتجاج، بل أدوات للمشاركة في القرارات، وقبل ذلك لإفراز الاختيارات.

والمغرب في حاجة إلى أحزاب كبيرة وقوية. لأن ذلك هو الطريق إلى حكومات قوية. إن الحكومات الائتلافية المؤلفة من أحزاب كثيرة، هي أقل الحكومات إقداما على الإصلاحات الكبيرة. إذ أن الائتلاف من هذا النوع، كما تكرس في التجارب الديموقراطية المعاصرة، يعطي دورا مبالغا فيه للفئات الصغيرة. والحزب الصغير إذا خسر في الانتخابات ينتظر في اطمئنان أن يشارك في حكومة تبوئه مكانه من الفيسفساء، ولا يحس بضرورة تغيير الخطاب ولا البرنامج، لأنه ضامن مكانه في اللعبة نظرا للحاجة إليه في تكميل الفريق الائتلافي. أما الحزب الكبير فإنه إذا تعرض للتأديب في صناديق الاقتراع، يضطر إلى استكناه أسباب الخسارة، ويسعى للتزود بأفكار جديدة وبنخب جديدة لاستعادة مكانته، وبالتالي فهو أكثر قدرة ليقدم على الإصلاح، للتجاوب مع التغيرات الحاصلة في المجتمع.