عرب الشتات وشتات العرب

TT

كنا مجموعة عمل تعد لزيارة رسمية يقوم بها الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد لفرنسا، بعد نحو عام من زيارة قام بها لباريس عام 1982، وتعمدنا أن تكون زيارة عملية تجيء في ذيل زيارته الرسمية الأولى لبلد أوروبي، وألا يكون فرنسا بل بلجيكا.

وكان مشروع البرنامج الرسمي يتضمن وضع اكليل من الزهور على ضريح الجندي المجهول تحت قوس النصر المقام في ساحة شارل دوغول، التي ينطلق منها شارع الشانزيليزيه ليصلها بساحة الكونكورد، حيث تساقطت الرؤوس يوما بآلة رهيبة حملت اسم مخترعها: «غيوتين»، كما حمل المطبخ العالمي اسم «الباشاميل» تخليدا للطباخ الذي اخترعه.

وفي إطار المناقشة اقترحت أن يشمل البرنامج زيارة لاحدى مقابر الجزائريين من قتلى الحرب العالمية، وهناك انفجر احد الحضور، كان سفيرا في عين المكان، وقال لي ساخطا ان المدفونين هناك كانوا فرنسيين، ولم يموتوا من اجل الجزائر.

كان الطرح يحمل قدرا كبيرا من المزايدة، بقدر ما كان يفتقد الى النظرة البعيدة التي جسدها فيما بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، عندما قام بزيارة لاحدى مقابر الحرب العالمية التي تضم رفات جزائريين، وبقدر ما يبرز السطحية التي تعامل بها بعض مسؤولينا مع قضايا الهجرة، والتي اعتبرتها في حديث سابق مثيلا للنفط.

ولعلي اقول هنا ان الدخل المالي ليس هو وحده المقصود، لأنني اعرف ان عائدات الهجرة كانت احيانا شرا مستطيرا، سواء بتغذيتها المباشرة لشرائح اجتماعية على حساب شرائح اخرى، أو بتسببها في انهيار قيمة العملة المحلية نتيجة للتحويل غير المشروع.

لكن لابناء الشمال الافريقي في عنق اوروبا دينا هائلا، اذ روت دماؤهم ارضها في حربين عالميتين، وهو ما جعلني اقول يوما، في تصريح نقلته صحيفة «لو موند» الشهيرة، بأن رفات الجندي المجهول تحت قوس النصر قد تكون رفات جزائري.

ولن اذكر هنا بالضحايا والمشوهين الذين دفعوا ثمن الحملات الاستعمارية الفرنسية، وفي مقدمتها حرب فيتنام، حتى لا يخرجني الاستطراد عن صلب الموضوع.

وحملت الهجرة عبر سنوات النهضة الفرنسية، وخصوصا منذ احتلال الجزائر، عبئا كبيرا في ميادين استخراج الثروات الوطنية كالمناجم، وفي مجال بناء المنشآت الاساسية، كأنفاق المترو.

معنى هذا ان الحقوق التي ينادي بها المهاجرون في اوروبا ليست منحة تعطى لشحاذين من نوع جديد، بل هي حقوق مكتسبة، خصوصا فيما يتعلق بالأجيال التي هاجرت بحثا عن لقمة العيش، بعد ان سد استعمار بلادها استيطانيا كل سبل العيش الكريم في وجهها، واغلقت ابواب التعليم في وجه ابنائها.

مهاجرونا لم يكونوا افرازا بشريا زائدا عن الكم الديموغرافي، يتخلص منه بلد بعينه في ظروف معينة، لكن القول، في اطار مزاعم تعطي لنفسها حق فلسفة الهجرة، بأن «المهاجرين هم في العادة زبدة القوم واكثرهم فعالية» هو عقدة استعلاء لا داعي لها تجسد عقدة نقص لا مبرر لها.

والواقع هو ان بعض ما عرفناه من هجرات فردية، انتحلت وضعية النفي الاختياري، يتناقض مع ذلك الزعم، مع التذكير دائما بأن التعميم خطأ جسيم.

لهذا اكرر أن الوقت قد حان للقيام بدراسة استراتيجية واسعة المدى تتناول كل المعطيات المرتبطة بجاليتنا في المهجر، بما يشبه دراسات تقييم الموقف التي تقوم بها القيادات العسكرية عشية كل مواجهة حاسمة وقبل كل معركة فاصلة.

هذه الدراسة هي رد الفعل الواعي لتفجيرات سبتمبر (ايلول) الماضي، والتي وجدها الشمال فرصة لحصار كل دور محتمل يمكن ان يقوم به ابناؤنا في المهجر، حماية لوجودهم في المرحلة الأولى وخدمة لأوطانهم الأصلية في مرحلة لاحقة.

ويجب ان نعترف هنا بأن الولايات المتحدة نجحت في تعقيدنا، اكاد أقول.. جميعا، الى درجة ان منا من كاد يتبرأ من بعض ابنائه ليمحو تهمة الارهاب عنه.

وطفت على سطح اعلامنا كتابات صحفية بدت كجثث متناثرة، تفكر من اليسار الى اليمين، وتتصرف وكأنها تنفذ سياسة رسمت في مخابر ماكارثية الفكر والانتماء والأسلوب.

وهكذا يشعر المرء بإحباط كبير وهو يقارن بين وضعية «الدياسبورا» العربية ومثيلتها اليهودية.

وربما كان من العناصر التي يمكن ان نتوقف عندها اليوم في التعديل الوزاري الاخير في الجزائر نقل شؤون الهجرة الى رئاسة الحكومة بدلا من وزارة الخارجية، ولعل هذا يرسم نظرة جديدة لتلك الشريحة من ابنائنا في المهجر، تنطلق من أنها امتداد ديموغرافي للوطن، مما يتطلب توضيح واجباتها وتأكيد حقوقها وتوضيح دورها.

ويهمني ان أقول هنا ان حديثي لا يعطي لنفسه قيمة الدراسات الاكاديمية، بقدر ما هو محاولة لإثارة الانتباه الى تلك الشريحة التي تعيش وسط قوم ليسوا بالضرورة من احبائنا وخلصائنا أو حلفائنا، بدون ان يكونوا بالضرورة اعداء لنا أو خصوما.

والواقع هو اننا نجتاز مرحلة متوترة من مراحل العلاقات بين الشمال والجنوب، بدأت تأخذ طابعا متزايد العدوانية من الطرف الآخر.

وأنا أركز على الشأن الجزائري لأنني اقرب اليه من غيره، وإن كنت لا ازعم امكانية الاحاطة بكل جوانبه، وهذا كله يجعلني ادعو القادرين على امتداد الساحة العربية الى المساهمة في توضيح الرؤية.

واذا كانت الجزائر من البلدان التي اقامت وزارة لشؤون المغتربين، فإنني لا اتصور ان كل تلك البلدان استطاعت النفاذ الى اعماق قضايا الهجرة والتعرف على ابعاد دورها ليمكن وضعها في الاطار الاستراتيجي العام لحركة الوطن العربي مع الحلفاء والخصوم على حد سواء.

واذا كان إلحاق شؤون الهجرة برئاسة الحكومة قد يكون منطلقا لتعامل جديد مع جاليتنا في الخارج، فإنني لا انتظر نتائج باهرة على المدى القصير أو حتى على المدى المتوسط، ولسبب بالغ البساطة، هو ان تعبير الجالية الجزائرية في الخارج، عند اغلبية معتبرة من المسؤولين عندنا، يعني الجزائريين الموجودين في فرنسا وحدهم، وذلك برغم وجود جاليات معتبرة في بلدان اخرى، من بينها جالية تتمتع بمستوى علمي وثقافي متميز في بريطانيا، واخرى تشبهها في كندا وتزيد عليها بوجود انتقائية جغرافية، بتركزها في مقاطعات معينة وانتمائها الى مناطق معينة وارتباطها بتوجهات معينة.

وهناك جاليات عريقة في المشرق العربي، لم تُبذل جهود جادة لربطها بالوطن، وجاليات اخرى في دول المغرب العربي، انعكست عليها وضعية التناقض السياسي الذي عرفه الشمال الافريقي، خصوصا منذ تفجر قضية الصحراء الغربية.

واهمية هذه المشكلة هي ان ابناء المغرب العربي، والجزائر والمغرب على وجه التحديد، هم اكثر المغتربين القادرين على التأثير في محيطهم السياسي والاجتماعي، خاصة في فرنسا وبلجيكا، اذا امكن حمايتهم من التأثيرات السلبية للتناقضات السياسية بين القيادات، وهو ما يبرز ضرورة الوصول الى حل عادل ودائم وسلمي وعاجل لتلك القضية الشائكة.

واعترف هنا ان وضعية كل من الجالية التونسية والمغربية، في مجال الارتباط بالوطن الأم والتواصل معه، تتفوق الى حد كبير على وضعية الجالية الجزائرية.

ولقد تمكن البلدان الشقيقان من تنظيم قضية الولاء لنظام الحكم، ولا مجال هنا للتفاصيل، وهو ما لم يتوفر للهجرة الجزائرية، وهي أكبر الجاليات في فرنسا على وجه التحديد.

والولاء للوطن الصغير، بكل مناطقه وانتماءاته، يجب ان يؤدي الى ولاء اعمق للوطن الكبير، بكل اقاليمه وتوجهاته، وبدون هذا سيظل الشتات شتاتا، وهو ما يبرز مرة اخرى اهمية وجود المشروع الوطني العربي، الذي تتكامل فيه كل المعطيات الحضارية للأمة.

وهنا يتأكد دور المجتمع المدني كطليعة لدور الجماهير.

* الوزير الجزائري الاسبق للإعلام والثقافة