دار الولادة الأميركية

TT

مشكلتنا مع الولادة المنتظرة للدولة الفلسطينية ـ بعد طول مخاض ـ ليس في انها ستكون ولادة قيصرية فحسب، بل في ان دار ولادة واحدة في العالم تملك «تقنية» اخراجها من «رحم» الوطن الصهيوني.. اي المستشفى الاميركي. لماذا نكابر ونحاول ان نزايد على بعضنا البعض؟

خمس وثلاثون سنة انقضت على كفاح بذل فيه الفلسطينيون الغالي والرخيص، وعلى نزاع لا يزال يرهن مستقبل الشرق الاوسط للمجهول... خرجنا منه بواقعين لا يستطيع احد إنكارهما: 1) ميدانيا عودة الاحتلال الاسرائيلي الكامل الى كل الاراضي الفلسطينية.

2) سياسيا: بقاء «نافذة» واحدة فقط مفتوحة على الحل، هي نافذة خطاب الرئيس الاميركي جورج بوش. على هدى منطق مقولة «إن شئت ان تطاع فاطلب المستطاع»، بات المستطاع اليوم في ظل الامر الواقع العسكري على ارض السلطة الفلسطينية المحتلة، وموازين القوى الدولية المختلة، اللجوء الى «المبضع الاميركي» لاستئصال الدولة الفلسطينية من مخالب استعمار اسرائيلي ستبقى دعامته الثابتة ـ حتى نهاية ولاية بوش على الاقل ـ هواجس الارهاب الاميركية.

مع التسليم بصوابية كل الانتقادات الموجهة لمطلب بوش اقالة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات من موقعه على رأس السلطة الفلسطينية كشرط مسبق لقيام الدولة الفلسطينية، فمن شأن الالتزام بخطة الرئيس الاميركي تحقيق اكثر من «ايجابية» واحدة للجانب العربي قد يكون ابرزها: ـ اثبات كون الديمقراطية الاميركية نظاما للاستهلاك المحلي، في احسن الحالات، وفي اسوأها مبدأ سياسيا للخاصة من شعوب العالم فقط.

ـ وضع المسؤولية التاريخية لاخراج الاحتلال الاسرائيلي من الضفة والقطاع ـ قبل مسؤولية اقامة الدولة الفلسطينية ـ على عاتق الادارة الاميركية، مع ما سيستتبع ذلك من «تباين» متوقع بين الرؤيتين الاميركية والاسرائيلية لعمق هذا الانسحاب وتوقيته.

ـ تحييد الموقف الاميركي من النزاع، على اعتبار ان كسبه للجانب العربي من رابع المستحيلات بعد 11 سبتمبر 2001 وربما قبله ايضا. ـ أخيرا، لا آخرا، تأكيد الالتزام الاميركي باعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني ـ كما وعد الرئيس بوش.

ـ وهي بحد ذاتها مسؤولية ضخمة وملحة في اعقاب ما ألحقه الاحتلال الاسرائيلي من خراب متعمد للبنى التحتية وللمرافق الانتاجية الفلسطينية. باختصار، جربنا حل النزاع عربيا ففشلنا ـ وفلسطينيا ففشلنا ـ واوروبيا ففشلنا... فلماذا لا نجرب «أمركة» القضية وتحميل واشنطن بعضا مما حملته لنا من اعباء التعامل مع اسرائيل على مدى العقود الثلاثة المنصرمة؟ ربما كانت هذه الاعتبارات في صلب «الايجابيات» التي اشار اليها وزير الخارجية السوري، فاروق الشرع، في تعليقه الخميس الماضي على خطاب الرئيس بوش. إلا ان ايجابيات عرض بوش لا تعني، باي شكل من الاشكال، انكار دور عرفات التاريخي في النضال الفلسطيني لاقامة الدولة المستقلة. يكفي انه في عهد قيادته لحركة التحرير الفلسطينية اقتنع العالم ـ والولايات المتحدة أخيرا ـ بان «الدولة» هي الحل الوحيد للنزاع.

من هنا أهمية التوفيق بين «أمركة» الحل، من جهة وحفظ موقع عرفات في هذا الحل، من جهة اخرى. ورغم صعوبة التوصل الى معادلة لا تفني الغنم ولا تقضي على الناطور، قد يكون المخرج المتاح من هذا الاشكال ان يخوض عرفات الانتخابات الفلسطينية المقبلة ويثبت لواشنطن والعالم اجمع، وبالمقاييس الاميركية الديمقراطية، انه الرئيس المنتخب لاول دولة فلسطينية مستقلة في العصر الحديث... ثم يستقيل من تلقاء نفسه، مسجلا بذلك موقفا تاريخيا آخر في خدمة القضية، وتاركا للجيل الفلسطيني الجديد مهمة ملاحقة الوعود الاميركية للدولة.

من هذا المنظور قد يصح القول انه إذا كان «رأس» عرفات هو ثمن الدولة الفلسطينية فهو ثمن لن يقصر عرفات عن بذله.