بالعذاب يحيا الإنسان

TT

وصلني «ايميل» من زميلنا الفاضل الدكتور خالص جلبي. يعرفه القراء من مقالاته الجزيلة في هذه الصحيفة التي تعبر عن فلسفته باللاعنف والسلامية والعقلانية. يقول لي ذلك الأيميل:

«بين حين وآخر، يلتمع قبس في سماء كتاباتك فتضيء الدنيا بلون بهيج وتنتعش ارواحنا فنرى الكون واضحا، ولكن اكثر الناس لا يبصرون. ومن هذه اللمعات كانت مقالتك القصيرة عن الأسلوب السلمي في فلسطين ( بعنوان «شيء تنقصه المصداقية»، 29يوليو). ولكن كلماتنا لا تفيد بشيء. ولم تتعلم الشعوب بالكلمات، بل بالعذاب الأليم. والعرب لم يتعذبوا كفاية حتى الآن».

الكلمة المهمة في هذه الرسالة هي «العذاب». تحمل العذاب واستعراضه من اجل الحق اسلوب من اساليب النضال اللاعنفي، أو الجهاد المدني. لقد تبناه غاندي وطبقه على نفسه بمسيراته الكبرى واضرابه عن الطعام حتى شارف على الموت كلما احتدمت الأزمة في بلاده. وكان بتحمله العذاب ينير الطريق للآخرين فيتراجعون عن الضلال والظلم. تحمل العذاب اسلوب شائع ونمارسه في الحقيقة على النطاق الشخصي منذ طفولتنا. فعندما نحرم الطفل من شيء، يرمي نفسه في التراب والأوحال ويضرب على رأسه ويصرخ ويبكي حتى ترق قلوبنا فنعطيه ما يريد. المرأة تفعل نفس الشيء امام جبروت الرجل. حالما يحرمها ويسيء معاملتها تتمرض، وأحيانا تتصرف كالأطفال فتضرب على وجهها وتشق ثيابها وتصرخ وتبكي وتمتنع عن الأكل. يمكن تفسير حتى الماسوشية الجنسية من هذه الزاوية. رأيت في حياتي حتى بعض الرجال يضربون على رؤوسهم عندما تهضم حقوقهم او تساء معاملتهم. ما اكثر ما نسمع رجلا يهدد الآخر فيقول: «يعني تريدني اكفخ على راسي؟».

انه اسلوب شائع ولكنه قليل الاستعمال في ميادين السياسة والشؤون العامة. اشار غاندي على الأوربيين باستعماله في مواجهة النازيين. وكثيرا ما اوصى بتقديم الضحايا من اجل اقناع الخصم بعدالة قضيتك. لواستعرضنا تاريخ الانسان لوجدنا ان معظم الانتصارات التي حققتها البشرية لم تحدث بالسيف وانما بتحمل العذاب. القرآن الكريم مليء بقصص الأنبياء والرسل والمؤمنين الذين قلبوا التاريخ وانتصرت رسالتهم بتحملهم العذاب. فلنتذكر الآيات «قتل اصحاب الأخدود...».. الخ . آل بيت رسول الله خاضوا كل معاركهم بتحملهم للعذاب. والسيد المسيح عليه السلام اصبح رمزا لتحمل العذاب فداء للأنسان. وبعذابه سادت المسيحية. يجري نقاش طويل عن العمليات الاستشهادية في فلسطين وأثرها على الرأي العام العالمي. اشار البعض الى ما فعله الرهبان البوذيون في فيتنام، والأكراد في تركيا، عندما كان الواحد منهم يصب النفط على نفسه ويضرم النار فيها في الساحات العامة احتجاجا على الوضع القائم. قالوا لو ان الفلسطينيين فعلوا مثل ذلك لأحدثوا اثرا اكبرفي الضمير العالمي وفي صانعي القرارالاسرائيليين. بإمكانهم على درجات اقل ممارسة تحمل العذاب بالصيام والأضراب والمسيرات الكبرى. اعترف بالطبع بوجود فوارق. فاستراتيجية الإسلاميين ترمي الى اشاعة الذعر والخسائر بين الإسرائيليين وحملهم في الأخيرعلى مغادرة البلاد. السؤال الآن ما اذا ادت الى مغادرة العرب بدلا من اليهود.