عودة إلى المؤتمر الماروني العالمي

TT

عدت قبل أيام من نيويورك بعد زيارة قصيرة هي الأولى لي منذ احداث 11 أيلول (سبتمبر) لهذه المدينة التي أحب. وكان ابرز ما لفت انتباهي هذه المرة في نيويورك استمرار نوع من الشعور بالصدمة رغم مرور قرابة عشرة اشهر على تلك الاحداث.

جرح نيويورك العميق لا ينم عنه فقط «بروفيلها» المكسور بتغييب برجي التجارة العالمي، ولا إجراءات الأمن المكثفة في المطار، ولا بازدهار بيع قمصان «التي شيرت» التي تحمل شعارات شرطة نيويورك او إطفائية نيويورك كعربون امتنان او عبارات الحب والتحية للمدينة، بل في نوع من الانقباض او الضيق الذي يتضخم اكثر في الحر الخانق وسط زحام مانهاتن.

بالمختصر، نيويورك هذه المرة لم تكن العروس التي اعرف. ولذا كانت غرفتي في الفندق واحة راحة باردة واخبار التلفزيون وتعليقاته وسيلة لكسر الروتين، وجلسات الفطور او الغداء مع بعض الاصدقاء مناسبة للتذاكر وتبادل الاراء. وبين المواضيع التي تطرقنا اليها امام خلفية الاوضاع العامة طغيان الطابع ـ بل والتوجه ـ المحلي على تناول الاحداث الدولية وتقارير المراسلين الاميركيين في الخارج. وادليت بدلوي فقلت انني من المدمنين القدامى على قراءة مجلة «ناشيونال جيوغرافيك ماغازين» لكنني بت أملّ منها، وافكر جدياً بوقف اشتراكي فيها، بعدما أخذت تفقد طابعها الجغرافي وتتحول شيئاً فشيئاً نحو العلوم والبيئة، وهذا بينما ما زال جهل المواطن الاميركي بجغرافيا العالم وتاريخه فظيعاً، وبينما تدفع «العولمة» اميركا والاميركيين الى قلب العالم وتدفع العالم ومشاكله الى قلب اميركا. وهنا جاءني رد من صديق ازعجني مضمونه بقدر ما اقتنعت بصحته، إذ قال «انهم ينشرون ما يكثر عليه الطلب. المواطن الاميركي لا يريد ان يعرف. اولاً ليس لديه الوقت للإلمام بكل ما يستطيع الإلمام به.. وثانياً لا يهمه معرفة ما لا صلة مباشرة به وبمصلحته. وبالتالي مسألة الجغرافيا والتاريخ مسألة ثانوية جداً.. حتى بعد احداث 11 ايلول.. تكراراً المواطن الاميركي لا يريد ان يعرف ولا يعنيه الأمر شيئاً». نعم هذا هو جوهر موقف المواطن الاميركي، وهذا ما تحمله آلية الديمقراطية الاميركية بملحقاتها الاعلامية والترويجية والمصلحية الى قمة القرار السياسي. وهكذا نجد ان الخطاب المحلي والمصلحي الموجه اصلاً الى كتل المصالح والمعبر عن تفكيرها واولوياتها يفرض نفسه على آلية العمل السياسي ومفرداته ومبادئه. وبسبب الأحادية العالمية تخرج هذه الآلية بهذا الخطاب والمفردات والمبادئ من حدود الولايات المتحدة كـ«البلدوزر» الى العالم. وقد يتحفظ الاوروبيون ويمتعض اليابانيون والصينيون، وربما تعترض جماهير العالم الثالث مطالبة حيناً ومستجدية أحياناً، الا ان «البلدوزر» يمضي في طريقه غير عابئ الا بما يحصل في الداخل الاميركي، حيث مكمن القرار ووقود تلك الآلة الهدارة الصماء.

المواطن الاميركي لا يعرف.. ولا يريد ان يعرف. لا يهمه تحمّل تبعات سياسة حاكميه طالما لم تمسه مباشرة. وحتى عندما تساءل بعض الاميركيين عن اسباب كراهية بعض الحركات او الشعوب او «الحضارات» لأميركا.. سارعت ادوات صناعة الرأي العام الى اجابته بمختصر المختصر الذي تدرك هذه الادوات انه يكفيه.. ويزيد، ولن يهمه بعده البحث عما هو ابعد.

هذه هي الحقيقة التي تواجه كل من يريد ان يمارس اللعبة السياسية مع اميركا او داخل اميركا. ومن هنا يصح التعاطي بشيء من الموضوعية الرصينة مع مقررات «المؤتمر الماروني العالمي» الذي عقد في لوس انجليس خلال الشهر الفائت، والذي ادى إعلان الرئيس جورج بوش الشهير حول فلسطين، الى تأجيل تطرّقي الى نتائجه.

ايضاً لا بد من القول ان مناقشة المؤتمر المذكور داخل لبنان تعطلت بفعل تطوّر آخر هو ما عرف بـ«أزمة جسر الأوزاعي» التي اعادت تذكير اللبنانيين بأن بلدهم لم يكن.. ولن يكون ابداً «وطناً» سوياً، بل سيظل كما كان دائماً «محطة» مساومات وصفقات طائفية مؤقتة.

التعليقات والتبريرات تفوتت كثيراً في أمر المؤتمر الماروني. وحتى تفجر «أزمة جسر الاوزاعي» ببعدها الشيعي ـ السنّي، كانت الصيغة الغالبة هي الاتهامات والتهجم على منظمي المؤتمر والمشاركين ومضمون بيانه الختامي الذي جاء متطرفاً وعدائياً، رغم إصرار المدافعين عنه على القول ان مساهمة موارنة «الداخل» خففت كثيراً من غلواء موارنة «الاغتراب».. وانه لولا هذا الدور التخفيفي لكان المضمون اكثر تشدداً بكثير. الا ان ازمة «الجسر» وتلهي الاطراف المعنية بتبادل التحيات غير الودية، خدما المدافعين عن مؤتمر لوس انجليس من حيث لا يدرون. وهكذا استعاد كبار المدافعين ـ وكلهم من المسيحيين ـ عن المؤتمر زمام المبادرة، وانقضوا على خصومهم مفندين مآخذهم عليه.. ومشككين في قيمة ما يقدمونه هم للوفاق الوطني و«لأزمة» سيادة البلد واستقلال قراره الحر. وفي المقابل فقد منتقدو المؤتمر ـ وغالبيتهم من المسلمين ـ سلاحاً ماضياً في مساجلة يفترض ان منطقها يقوم على إعلاء شأن «المواطنة» و«دولة الوفاق الوطني» فإذا بهذا السلاح يسقط عند هبوب اول ريح. وإذا باللبنانيين يشهدون ردحاً تناول تهم المحاصصة والترضيات وتبادل المنافع.. ومن ثم تهم التخوين واستغلال المقاومة او معاداتها ومحاولة استدراجها لضربها على وقع حملة مكافحة «الإرهاب».

هذا السيناريو البشع يزداد بشاعة عند إدراك حقيقة ان اللبنانيين ـ ساسة ومواطنين ـ يفقدون يوماً بعد يوم آخر ما تبقى لديهم من اوراق تمس مصيرهم. والمؤتمر الماروني يشكل حالة ممتازة تجسد هذا الواقع.

فأي راصد للوضع اللبناني يفهم ان ما تحقق على صعيد الوفاق السياسي قليل جداً، رغم الالفاظ المنمقة. فالمصالح الطائفية اليوم اعتى مما كانت عليه عند تفجر الحرب الاهلية عام 1975، والتقوقع اللاوعيي اسوأ بكثير مما كان عليه عام 1975، والنفور من الطرف الآخر والتخوف منه ايضاً اشد وادهى مما كانا عليه عام 1975.

كل ما تغير هو الكلفة الباهظة للسير قدماً في تصفية الحسابات. ومن ثم اهتمام القوى الطائفية في البلد ـ من جميع الطوائف ـ بترتيب مرحلي لأوضاعها.. انتظاراً لتغير في الظرفين الاقليمي والدولي يسمح بإلغاء ما فرض عليها من تنازلات. ولا شك ان الطوائف المسيحية مقتنعة بأنها خسرت الكثير بموافقتها على «اتفاقات الوفاق الوطني» في الطائف. وهذا ليس سراً، فمعظم الاصوات المسيحية المحافظة تتحدث علناً عن «تهميش المسيحيين» وتجاهل مخاوفهم. وليس سراً ان العلاقات المسيحية بـ«الخارج» المسيحي كانت دائماً خياراً وارداً ومشجعاً، الا انه بسبب فترة معينة في تاريخ لبنان ما بعد الحرب شهدت بضعة تدخلات غربية فاشلة، حصل انكفاء في هذا البعد «الخارجي» اسهم بتراجع محدود للنفوذ المسيحي، والماروني تحديداً، داخل تركيبة الحكم اللبناني. الآن ثمة متغيرات جذرية في المشهدين الاقليمي والدولي. فإسرائيل، كما يرى البعض اليوم، تتمتع بقوة سياسية وعسكرية طاحنة كفيلة بسحق اي قوة اقليمية تعن لها. والولايات المتحدة تقود حملة هيمنة راديكالية مطلقة ليس فقط على سياسات العالم، بل على مفاهيمه وثقافاته ووجدانه الحضاري، وهي مستعدة في سياق هذه السياسة لسحق اي خصم تسوّل له نفسه مساءلتها. وعند جزء من المسيحيين اللبنانيين من هذا «البعض» هناك مغريات عديدة للالتحاق بركب إسرائيل و«البلدوزر» الاميركي لإعادة عقارب الساعة الى الوراء. ومن هؤلاء من وقف علانية في لوس انجليس محرجاً بعثة «لقاء قرنة شهوان» (الممثلة الرسمية لموارنة «الداخل») متبنياً خطاب «صقور» تل ابيب و«صقور» يمين واشنطن ضد سورية والعرب والعالم الاسلامي. ومع ان البعثة حرصت لدى عودتها على التخفيف من وقع هذا الخطاب، والدفاع عن نفسها داخل المؤتمر، يمكن ايجاز الحقيقة بأمرين:

الأول، ان هناك تياراً مارونياً، كبر ام صغر، ما زال يعتبر نفسه غريباً عن العرب ومعادياً لهم وللعالم الاسلامي، وهو في هذا السبيل متأهب لخوض اي حرب ضدهما، مع اي حليف كان.

الثاني، ان المعتدلين والعقلاء من الموارنة اخطأوا في إطلاق «مارد» نفوذهم خارج لبنان إذا كان ضمن حساباتهم فعلاً ان يظلوا هم اصحاب القرار النهائي في مصيرهم. ذلك ان «مارد» المارونية السياسية المناوئة للعرب والمسلمين الذي اطلقه البعض في لوس انجليس سينتهي به المطاف قوةً ذات ايحاء خارجي ودفع خارجي مستقلين تماماً عن مرجعية الوطن الأم.. مثله مثل اي «لوبي» قومي او طائفي داخل اميركا. وهنا الخطيئة الكبرى والخطر الأعظم.