إصلاح تأخر كثيرا

TT

نقل الزميل علي الصالح عن مصادر فلسطينية ان مظاهرات الاحتجاج على اقالة العقيد جبريل الرجوب كانت بتنسيق بينه وبين الرئيس ياسر عرفات («الشرق الأوسط» الاثنين الماضي). اذا كانت تلك المصادر تعتقد انها كانت عبر كلامها هذا تخدم الرئيس عرفات او العقيد الرجوب، او الاثنين معا، فهي على خطأ، او لنقل انها لم تكن موفقة حتى اذا حسنت النية، اذ ان وجود هكذا «تنسيق» سيعني ان الرئيس الفلسطيني ليس جادا وانما يمارس «التكتيك» الذي برع فيه كلما واجهته الأزمات، وهذا ما يفترض ان يكون آخر ما يحتاجه ابو عمار في هذه المرحلة.

وفي انتظار ما انتهت، او ستنتهي اليه تفاعلات «ازمة» اقالة الرجوب، وغيرها من اجراءات تغيير اقدم عليها الرئيس عرفات، او انه في صدد الاقدام عليها، يبقى من المحزن حقا ان تبدو قرارات التغيير والاصلاح في اجهزة السلطة الفلسطينية مجرد ارضاء لرغبة من خارج البيت الفلسطيني، اميركية اولا ثم اوروبية.

لماذا؟

ألم تكن هناك مؤشرات عديدة قبل ايلول (سبتمبر) 2000 على الحاجة الى الاصلاح؟ ألم ترتفع اصوات عدة داخل البيت الفلسطيني منذ خمس سنوات تطالب باصلاح الحال قبل تدهوره الى اسوأ؟ ألم تصدر منشورات وبيانات تشير باصابع الاتهام الى اكثر من طرف وتسميهم باسمائهم وتطالب بالتحقيق معهم وكف ايديهم عن الاستمرار في الفساد والافساد؟ ألم يشكل المجلس التشريعي لجنة اصدرت تقريرا سمى من سمى واشار بوضوح الى وجود اكثر من خلل في اجهزة السلطة؟

بلى، وبلى، فلماذا غض النظر كل هذه السنين، ولماذا التظاهر بالاستماع وفي الوقت نفسه ممارسة عدم الانصات؟ لماذا الصبر على الخلل وغض النظر عن المطالبة بالاصلاح الى ان يأتي الاحتجاج من واشنطن وعلى لسان الرئيس الاميركي؟

في تشرين الأول (اكتوبر) 1997 نشرنا في الصفحة الاولى من هذه الجريدة تقريرا كان عنوانه: «غزة: اطفال على حافة المجاعة»، ومع التقرير صورة لطفل يبدو وكأنه من اطفال مناطق المجاعات في افريقيا. كان ذلك التقرير ضمن سلسلة تحقيقات ورد فيها ان عشرات الاف العائلات في قطاع غزة تعيش على الخبز والشاي فقط، واذكر انني اثناء اجراء تلك التحقيقات قابلت في مكتب الدكتور سامي ابو ضلفة، مدير مستشفى الاطفال، ابا اتى بطفله للعلاج واردت سؤاله عن احوال اسرته فقلت: كم مرة في الاسبوع يتناول اطفالك البيض؟ رمقني الرجل بنظرة بدت كصفعة ادركت معها فورا غلطتي، فأعدت سؤالي: اقصد كم مرة في الشهر؟ اجاب هو يقاوم بكاء فضحته حشرجة صوته: مرة او مرتين اذا يسر الله. في ختام تلك التحقيقات كتبت مقالا خلاصته ان الرئيس عرفات يجب ان يغير اسلوبه في التعامل الاداري من اسلوب قيادة الثورة في المنفى، الى اسلوب ادارة بناء مؤسسات دولة هي في طور التأسيس، وانه في حاجة الى اعلى درجات الشفافية وليس في حاجة الى من يكيل له المديح والتذكير ليل نهار بزعامته.

حقا، بدا منذ ذلك الوقت ان الوضع الفلسطيني الداخلي صارخ التناقض. فمن جهة، مئات الالاف يعيشون على الكفاف، وهؤلاء يرون طبقة من بضع مئات تنمو امام اعينهم مثل اثرياء الحرب، بيد انها في ذلك الواقع الفلسطيني العجيب كانت طبقة اثرياء السلام، الذين لم يجد بعضهم غضاضة في ان يحولوا بناء مؤسسات الدولة الى ما يشبه المشروع التجاري الخاص بهم وبعائلاتهم، فراحوا يمارسون متع الثراء الفاحش على مرمى حجر من مخيمات تطفح باوساخ المجاري، بعضهم لم يخجل ان يأتي بخادمات من دول تصدير الخدم، وبعضهم لم يردع صبيته عن التبختر بالمرسيدس والبي ام دبليو، ناهيك من «التشحيط» و«التفحيط»، في شوارع مدينة غالبية اهلها معدومون يقف اطفالهم عند الاشارات الضوئية يستجدون ركاب السيارات شراء علبة مناديل ورق لكي يشتري الواحد منهم كسرة خبز، وربما قلما وكراسا.

لقد بدا الخلل واضحا منذ البداية، مظاهره عديدة وظواهره كثيرة، في كل المجالات تقريبا، لكن المحزن ان التصدي له لم يحدث في حينه، ومن دون حاجة لأن يطلب بوش او غيره، ومن دون ان تكون هناك حاجة الى كارثة بحجم ما حصل في جنين وغيرها... لكن هذا حديث آخر.