فلان... وعلان

TT

الشاعر العربي كالسياسي العربي يكون احيانا بلاء ونقمة على الناس، فهو ومنذ جده القائل «وما انا منهم بالعيش فيهم» يمارس معهم ما يمارسه السياسي فيذلهم، ويؤنبهم، ويظلمهم بالاقوال تاركاً لسميه السياسي ظلم الافعال.

وابحث معنا في قواميس اللغة، وهذه يصنعها الشعراء وليس السياسيون، وسوف تجد ان من نطلق عليهم اسم الجماهير في العصر المهذب الحديث كانوا عند الشعراء والسياسيين العرب القدامى ـ وربما المعاصرين ـ يحظون بعدة اسماء اجملها «همج» وأخفها «رعاع» واكثرها شيوعا «سوقة» وكلها بلغة يوسف وهبي «بزرميط».

اما عن احترام الشعراء للناس العاديين من همج وسوقة ورعاع واسماء أخرى نخجل من ذكر بعضها، فاسأل عن هذه الشاعر الفحل كلثوم العتابي الذي ما استفحل على غير المساكين وقد ترك لنا قريبه علان العتابي حكاية يصفها التراثيون بانها طريفة، ونراها اليوم قبيحة وسخيفة، وملخصها ان علان شاهد كلثوم العتابي يأكل خبزا في الطريق، فلامه على ذلك وقال: أما تستحي ان تأكل بحضرة الناس؟

وكانت العاربة وقبل انتشار مطاعم الرصيف في مدنها تخجل ان تأكل في الطريق العام خشية ان يمر جائع، لكن هذا لم يقلق الشاعر كلثوم ابن ام كلثوم فقال لقريبه مظهرا استخفافه بالناس: أرأيت لو كنت في دار فيها بقر اما تأكل بحضرتها...؟

وطبعا جاء الدفاع المجيد عن الجماهير بلسان علان الذي قال موافقا ومحتجا في آن: نعم ولكن هؤلاء ليسوا بقرا. فقال كلثوم: انتظر ارك فحش هذا الرأي.

ويواصل الراوي حكايته فيؤكد أن الشاعر توقف عن الأكل وقام في الناس خطيبا وجعل يحدث ويروي النوادر حتى تجمع حوله خلق كثير فقطع نوادره وقال لمستمعيه: روي عن غير وجه ان من بلغ لسانه ارنبة انفه ادخله الله الجنة دون حساب، فلم يبق احد ـ على ذمة علان ـ الا واخرج لسانه وجعل يحاول الوصول به الى ارنبة انفه.

ولهذا الشاعر قصة افظع في احترام العامة، اذ يحكى انه كان يسير في البصرة فاستوقفه احد العوام وسأله عن سكة الحمير وهي حي قديم في تلك المدينة، فقال كلثوم لفلان الفلاني الذي ساقه سوء حظه الى هذا الشاعر الذي يحترم الجماهير: بالنسبة لك كلها سالكة ان شاء الله...، أي ان الدروب جميعها مليئة بالحمير.

وموقف النخب الفكرية عند العرب في الموقف من العامة لا يختلف كثيرا عن مواقف النخب الشعرية، ففي الاخبار ان معاوية بن ابي سفيان سأل الأحنف بن قيس، وهو من خيرة مفكرينا القدامى ان يصف له الناس فقال: رؤوس رفعها الحظ، وكواهل عظمها التدبير، واعجاز شهرهم المال، واذناب اتحفهم الادب، ثم الناس بعد ذلك بهائم إن جاعوا ساموا، وان شبعوا ناموا..

وفي العصر الحديث جاءنا حديث الصوامع ونخب الابراج العاجية، وموقف هؤلاء من الجماهير لا يختلف كثيرا عن موقف الاحنف أو فلان أو علان من الاوائل الذين اسسوا للقطيعة المرة وادلجوا مجمل تلك «الاحتقاريات» التي تكشف عن خواء نخبنا القديمة والمعاصرة، ونقص حساسيتها الانسانية.

ولعل الاطلاع على هذه الخلفيات يفسر للمحتارين تلك الاشكالية الدائمة التي تجعل نخبنا الثقافية في واد والجماهير في واد آخر بعيد.