ياسر عرفات والنفق (1) ابن بطوطة النضال

TT

كان ياسر عرفات رجلا مثيرا للجدل والخصومات والولاءات، منذ اللحظة التي كشف فيها عن هويته «كناطق رسمي باسم اللجنة التنفيذية لحركة فتح». وقد اخفى هذه الهوية طويلا قبل ذلك. وبدأ العمل العسكري والسياسي وهو لا يزال بعد مهندسا في وزارة الاشغال العامة الكويتية. وروى موظف سابق في الوزارة «للقبس» منذ اشهر، انه شاهد صورة عرفات يحضر مؤتمرا سياسيا في الهند، وعندما عاد الى وظيفته في الكويت، قال له الرجل انه شاهد صورته في احدى صحف مصر، فنفى عرفات ان يكون الرجل الذي في الصورة هو. وظل ينفي.

وبعد تلك المرحلة بقليل بدأ يقوم بعمليات عسكرية من جنوب لبنان. وذات مرة اعتقله الجيش اللبناني مع فدائيين آخرين، وتولى التحقيق معه الرائد (فيما بعد اللواء والوزير) سامي الخطيب.

وكان الخطيب يعرف هوية عرفات الحقيقية لكن المعتقل ظل مصراً على انه رقيب في قوات «العاصفة». وعندما شعر ان الضابط اللبناني قد يمضي في وسائل الاستجواب، قال له: مهلا. انا ياسر عرفات القدوة.

يروي الوزير الخطيب هذه الواقعة لاصدقائه في الجلسات التي يروي كل من الحاضرين شيئا ما عن ياسر عرفات، في محاولة لرسم وجه حقيقي، او بالأحرى وجه كامل له. لكن الوجه الكامل هو الوجه الزئبقي الذي لم يره احد كما هو. انه بقائي بقدر ما هو فدائي. ودبلوماسي بقدر ما هو صلب. ومتراجع بقدر ما هو اندفاعي او عنيد. وهو يحب هذه الصفات في نفسه، بينما لا يطيقها الاخرون. وكان اكبر المتضايقين من زئبقية ابو عمار الرئيس حافظ الأسد، بينما كان اكثر المتضايقين من عناده الرئيسان الراحلان سليمان فرنجية ورشيد كرامي، فقد طلب منه كرامي مرة ان يبعد الدبابة الفلسطينية قليلا عن قبالة السراي فرفض. ووسط في الأمر سفير الكويت محمد العدساني، يوم كانت العلاقة الكويتية ـ الفلسطينية شديدة الخصوصية، غير ان ابو عمار استمر في الرفض.

كان لياسر عرفات قصة ما في كل بلد عربي، على وجه التقريب. فقد كانت رحلة التشرد والنضال والبحث اطول واعقد من رحلة اي فلسطيني من جيل 1948 السياسي: درس في مصر وعمل في الكويت وحارب في الأردن وقاتل في لبنان وتدرب في سوريا وتحالف مع العراق ونفى نفسه الى تونس وتشاور مع المغرب وتعاقد مع الجزائر واقام علاقة خاصة مع ليبيا. وفي مقابلة مع «الغارديان» قال سيف الاسلام القذافي الذي تصفه صحف الغرب «بالخلف المعد»، انه اعجب في طفولته بمناضلين، قائد ثورة الفاتح، وابو عمار الذي كان يأتي دائما الى زيارتهم.

غير ان ياسر عرفات اصطدم، في الطريق الى فلسطين، بكل بلد عربي تقريبا ايضا: مع الأردن ومع لبنان ومع سوريا ومع الكويت ومع السعودية واختلف مع الجزائر ومع العراق ومع مصر. وفي رحلة البقائيات والبحث عن فلسطين، او شيء منها، عقد حلفا مطلقا مع الاتحاد السوفياتي، وظل معلقا باهداب هذا الحلف حتى ما بعد مجيء غورباتشوف. ويوم وقع «انقلاب القرم» الشهير على غورباتشوف كان ابو عمار اول المهنئين. لكنه لم يكن سوى حلم ليلة في عز الصيف. وليالي الصيف في روسيا هي الأقصر في العالم.

وعندما رأى عرفات ان الاتحاد السوفياتي قد طمر تحت حجارة جدار برلين انتقل الى اميركا مصافحاً ومعانقاً. وزاده الغياب السوفياتي في حرب الخليج قناعة بأن الرفاق الذين عرفهم راحوا يودعون ساحة العالم ويطوون معها اوسمة الجنرال جوكوف ومعركة ستالينغراد. ثمة عالم جديد. او بالأحرى عالم مختلف. وها هو ابو عمار جاهز. لقد اصبح يؤدي التحية العسكرية في البيت الأبيض او حتى أمام جثمان ليا رابين. فهو قد انضم، منذ مدريد، الى ركب السلام والتسوية والمفاوضات، وان هو لم يخلع البزة الزيتية ولا مسدس الخاصرة. انه لن يخلعها لأي سبب. فهي حمايته النفسية، سواء ذهب سراً الى اوسلو او معزياً في جنازة اسحق رابين، او مخالطاً اغلى ربطات العنق في دافوس حيث لا يظهر شمعون بيريس إلا بالقميص الزهري.