فيلسوف ألماني يذهب إلى طهران ويعود منها حائرا

TT

لدى قراءة الصحف الغربية هذه الأيام يتشكل الانطباع لدى المرء أن هناك معركة فكرية جارية حاليا داخل إيران.

وكان توماس فريدمان من جريدة «نيويورك تايمز» قد أشار إلى «معركة الأفكار الكبرى» ضمن حملة انتقاداته للعرب. وضمن هذا السياق، يزعم فريدمان أنه في الوقت الذي يلجأ فيه العرب إلى الصمت، نجد أن الإيرانيين يعبرون عن آرائهم. وفي تقرير أخير صدر عن جريدة «اللوموند» الباريسية تكرر هذا الرأي، حينما اعتبر كاتب المقال أن إيران تعيش «حوارا تاريخيا». أما صحيفة «وول ستريت» الأميركية فقد مضت خطوة أبعد. ففي مقال نشر على صفحاتها مؤخرا زعم كاتبه حاجة الإسلام إلى إصلاح شبيه بالإصلاح المسيحي، وهذا الشيء بدأ تحققه في إيران. وتحدثت «فرانكفورتر اليمان زايتنغ» الصحيفة الألمانية الشهيرة عن «نقاشات حاسمة» تدور حاليا في طهران.

أمام كل هذه المزاعم يثار السؤال عن مدى دقتها وصحتها. فكأن طهران أصبحت أثينا سقراط، حيث يناقش الفلاسفة فيها مستقبل البشرية. واذا لم تدر هذه المناقشات في الساحات العامة فانها على الأقل ستدور في السراديب.

لإيجاد أجوبة عن تساؤلات من هذا النوع قرر يورغن هابيرماس، أكثر الفلاسفة الأحياء شهرة في ألمانيا، التوجه إلى طهران. إذ سبق لوزارة الإرشاد الإيرانية أن وجهت دعوة له لكنه رفض تلبيتها، وها هو الآن يبدّل رأيه ويقبل الدعوة. وهكذا سافر هابيرماس في الربيع الماضي إلى إيران في رحلة طويلة.

تحدث هابيرماس مطولا عن زيارته في مقابلة أجريت معه. الشيء الأول الذي توصل إليه من مشاهداته أن النقاش الدائر في إيران اليوم محدد بشكل صارم ضمن الفئة الحاكمة. وهذا الوضع شبيه بوضع الاتحاد السوفياتي في عقوده الأخيرة، حينما خاض المنظرون «معاركهم الفكرية» ضمن حدود الآيديولوجيا الرسمية.

مع ذلك، هناك فارق أساسي بين التجربتين. ففي حالة الاتحاد السوفياتي كانت المعارك الفكرية تدور وفق المعجم الماركسي ـ اللينيني، وظلت دائما ضمن الفكر الأسطوري الشيوعي المتعلق بالسياسة. بينما يدور النقاش الفكري في إيران بدون وجود مرجعية للفلسفة الإسلامية. من جانب آخر هناك اختلاف شديد الوضوح بين النقاشات الدائرة حاليا في إيران وتلك التي رافقت الفلاسفة المسلمين لأكثر من ألف عام بطابعها التأملي.

فالمشهد الغريب للملالي وهم يحاججون بحدة بعضهم البعض حول هيغل وبوبر، أو مشهد حراس الثورة الملتحين وهم يناقشون نيتشه وماكس فيبر، أمتعت هابيرماس، لكنها في الوقت نفسه بثت في نفسه قدرا كبيرا من الحيرة.

يقول الفيلسوف الألماني إن المتناقشين منقسمون إلى مجموعتين، الأولى تضم أتباع عالم الاجتماع اليهودي البريطاني كارل بوبر المتميز بالليبرالية والذي كرس حياته مبشرا بالمجتمع المفتوح، واقتصاد السوق وحدود ضيقة من السيطرة للدولة. وحتى فترة أخيرة كان عبد الكريم سورش يقود هذه المجموعة. ودرس سورش في بريطانيا وهو ناشط سابق ويدرّس حاليا في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة. ويقول هابيرماس إن ناشطا آخر اسمه حميد شابيستاري حل محل سورش.

اما المجموعة الثانية التي شخّصها هابيرماس فأفرادها من اتباع هيغل، الفيلسوف الألماني من القرن التاسع عشر الذي كان دائما محبوب الانظمة الاستبدادية. وحسب هابيرماس يقود هذه المجموعة رضا دواري الذي كان في فترة معينة المستشار الفلسفي لمرشد الثورة الإيرانية.

ووجد هابيرماس أن النقاش دار بطريقة لا تطرح شرعية نظام الخميني موضوعا للاستفسار. بل حتى أولئك الإصلاحيون ـ الذين ذكر اثنين منهم وهما هاجريان وكاديفار ـ انقلبا على خطهما حينما أخبرا هابيرماس أنهما يعتبران بقاء النظام أكثر أهمية من تحقق أفكارهما على أرض الواقع.

النقطة الأخرى التي برزت من زيارة هابيرماس لإيران أن جميع المشاركين حريصون على إبقاء الناس خارج هذا النقاش.

ويشبه النقاش المعلن عنه في إيران كثيرا تلك النقاشات الفكرية الزائفة التي انتشرت ذات مرة في مقاهي باريس بين الطلبة الجامعيين والفلاسفة المهملين لنظافتهم حيث كان الكل يناقش مستقبل البشرية وقضايا أخرى خالية من أي أهمية.

ويشبه الإيرانيون الذين التقاهم هابيرماس أطفالا مسحورين بدمى جديدة. وهذه الدمى هي الأفكار الغربية.

والتقى هابيرماس بعدد من الملالي الذين أرادوا أن يتباهوا بمعرفتهم بهيغل ونيتشه وماركس وفلاسفة آخرين يدخلون ضمن الاهتمام العام السائد في الغرب. وبدا هؤلاء الملالي فخورين بمعرفتهم السطحية للمواضيع التي تناولها هؤلاء المفكرون، وكانت حالة توقدهم شبيهة بحالة الأطفال الذين تعلموا للتو سياقة الدراجة وهم يرفعون أذرعهم في الهواء.

يفتقد هؤلاء الملالي الهيغيليون والبوبريون الذاكرة التاريخية ويتصرفون كأن الإسلام لم تكن لديه تقاليد فلسفية خاصة به. فهم يقولون إنهم يكرهون الغرب لكنهم في الوقت نفسه يعتبرونه مصدرا للأفكار الذكية.

يقدم هابيرماس تلخيصا سريعا عن موضوعات النقاش. وهذه تتضمن موضوع العلاقة بين الدولة والمجتمع. وجميع المشاركين في النقاشات يظنون أن المجتمع الإيراني بحاجة إلى «التوجيه»، وإذا لم يكن الملالي هم الطرف الموجّه فعلى الأقل أن تكون هناك بعض المؤسسات التي تقوم بهذه المهمة. وهذا الإدعاء هو متناقض، بالطبع، مع الفكرة الليبرالية الحديثة التي ترى ان المجتمع هو الموجه للزعماء وليس العكس. بل حتى البوبريون في طهران لا يستطيعون أن يروا شعبا تعداده سبعون مليون نسمة يختلف عن روضة أطفال حيث التوجيه فيها يسير بدون استشارة الأطفال أنفسهم.

وأفكار، مثل الحرية والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، جذابة طالما أنها ظلت موضوعات لنقاش تجريدي. وترجمتها إلى واقع حقيقي ستجعلها موضوعات خطيرة. فالحرية شيء مقبول طالما أن الجميع يساندونها ضمن النظام الحالي. والديمقراطية مرغوب فيها إذا كانت تساعد على تقوية النظام. اما موضوعا التعددية والانتخابات فيستحقان كل دعم وتأييد طالما أنهما يساعدان في انتخاب وإعادة انتخاب المرشحين الذين تم اختيارهم مسبقا. وحقوق الإنسان يجب أن تحترم طالما أنها لا تهدد الفئة الحاكمة.

طهران ليست أثينا الجديدة. إنها عاصمة بلد ينتمي إلى العالم «ما تحت النامي» ويعيش أزمة اقتصادية وسياسية حادة، وزعماؤه غير قادرين على التفكير بطرح برنامج معقول للتغيير.

ويبدو أن النقاشات الفلسفية قد نظمت كعروض للزوار الأجانب مثل فريدمان وهابيرماس. وهذه النقاشات تشبه الأفلام الإيرانية التي اعدت للمهرجانات السينمائية الأجنبية، لكنها لا تعرض البتة داخل إيران.

فالنقاش تم تصميمه بحيث يكون الدوران حول القضايا بدلا من تناولها. والقاموس مستعار من الغرب، وهو غير مألوف للكثير من الإيرانيين. والقياسات المنطقية التي تتحكم فيه لا صلة لها بحياة الناس الحقيقية.

ويخدم النقاش في إيران هدفا أكثر سوءا مما يظهر. إذ أنه مع خلقه شعورا وهميا بتوفر الحرية في تبادل الآراء، لكنه يمنع من طرح القضايا الحقيقية التي تهم الفئات الفقيرة والمتوسطة وتلك التي لا صلة لها بالفلسفة. وهذه القضايا هي البطالة المتفاقمة والتضخم المتفشي وغياب القانون والإدمان على المخدرات والعزلة الدولية والمؤسسات الرسمية العاجزة عن الفعل، وزيادة عدد سجناء الفكر، وأخيرا وليس آخرا، الانشقاق السياسي الحقيقي.

لكن هابيرماس لم يُخدع بالعرض الإيراني لأنه كفيلسوف تدرب كي لا يأخذ المزاعم بشكل جدي قبل اختبارها. بينما تدرب فريدمان والمتحمسون الآخرون على البحث عن قصة جذابة. فهم لا يعرفون أن بإمكانهم حضور جلسات نقاش تجريدي عديم الفائدة، ومشابه لنقاشات طهران في أي صالون بورجوازي داخل العالم الإسلامي، من اندونيسيا إلى المغرب مرورا بباكستان والكويت ومصر.

حينما يأتي فريدمان مرة أخرى إلى المنطقة فإن بإمكانه أن يطلب بعض المعلومات التي تساعده في إعادة النظر بأحكامه.