حقيقة الموقف الأميركي من محكمة الجرائم الدولية

TT

مرة أخرى ها هي الولايات المتحدة تدخل في مواجهة مع منتقدي أسلوبها «الأحادي» ومعظمهم من الأوروبيين، محورها هذه المرة الموقف الأميركي من محكمة الجرائم الدولية. فقد باشرت هذه المحكمة التي تأسست للتعامل مع جرائم الحرب والإبادة الجماعية، أعمالها في لاهاي مؤخرا، بدون مشاركة الولايات المتحدة. ويبدو ان الموقف الأميركي المتردد من هذه المحكمة لم يحسم بعد بشكل تام.

فرغم ما يفترض من أن المحكمة ستدعم دور القانون في أنحاء العالم، الا ان البعض يعتقدون بأنها قد تلحق ضررا بسلطة القانون. كما يعتقدون بأنها تمثل تراجعا ـ وفي حقيقة الأمر عودة لما قبل العصر الحديث ـ لأنها تتعارض مع مبدأ ان كل هيئة تتمتع بسلطة ما، فوق الآخرين لابد أن تخضع للمساءلة من قبل شخص ما.

ففي يوم 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 2000، الذي قد يكون آخر أيام في السلطة، وافق بيل كلينتون على التوقيع على معاهدة روما لعام 1998 التي وضعت أساس محكمة الجرائم الدولية، لكنه في مناسبة أخرى قال إن هناك عيوبا تشوب المعاهدة، وبالتأكيد انه أدرك ان مجلس الشيوخ لن يقرها أبدا. وفيما بعد تقول إدارة بوش، في شرحها لأسباب التراجع عن توقيع المعاهدة، إن هذه المحكمة المنقوصة البناء، والتي تتمتع بصلاحية اعتبار ما تراه بأنه يندرج ضمن مفاهيم كـ«جرائم حرب» و«أعمال عدوانية»، قد تشكل خطرا على قوات حفظ السلام والمقاتلين من أفراد الجيش الأميركي، خاصة أولئك الذين اشتركوا في الحرب الغامضة ضد الإرهاب. وهذه مخاطر حقيقية، بالنظر إلى عنصرين مرتبطين من حيث المفهوم لهما علاقة بميلاد هذه المحكمة: فأميركا بتفوقها غير المنازع تتحمل مسؤوليات لم ولن تتحملها أية دولة أخرى. كما ان خصوم أميركا الذين اخترقوا العديد من الهيئات الخارجية، ستتوفر لديهم القدرة على تشكيل مسار المحكمة. وهناك مشكلة أعمق ولا يمكن حلها بشأن محكمة الجرائم الدولية، تبينت أثناء الاحتفال الرسمي للرئيس السابق كلينتون، بتدشين المحكمة باعتبارها عملا يشبه ما حدث خلال عام 1803، الذي يمثل أكثر أيام التاريخ الأميركي أهمية، عندما تمكنت المحكمة العليا من فرض سلطتها المتعلقة بمراجعة مدى سلامة الإجراءات التي تقوم بها أفرع الحكومة السياسية، من ناحية قانونية. فديمقراطية أميركا الدستورية تتضمن إجراءات فحص وتوازن ـ بما فيها الانتخابات ـ تحيط بحرية القضاء، بينما صلاحيات محكمة الجرائم الدولية تسمو فوق المؤسسات الممثلة للشعب. فمحاكم جرائم الحرب التي أقيمت عقب الحرب العالمية الثانية في نورنبرغ وطوكيو، لم تخل من المشاكل، حيث فرضت ما اعتبره البعض قوانين عتيقة بأثر رجعي ـ وهي قوانين وضعت لغرض سياسي تم تحديده سلفا. لكن القوانين الوطنية التي أقيمت على أساسها تلك المحاكم، كانت تحظى بالسيادة في المانيا واليابان. وعلى خلاف تلك المحاكم ، التي لعبت دورا في كبح جماح حالة الرغبة في الانتقام عقب الحرب، وبعكس المحاكم الحالية الخاصة بالجرائم التي أرتكبت في رواندا ويوغوسلافيا السابقة، فإن محكمة جرائم الحرب غير مسؤولة، لأجل غير مسمى، عن أو أمام أية إدارة حكومية.

والمشكلة ليست متمثلة فقط في أن المحكمة «فوق القانون» لكنها أيضا في حقيقة انه لا يوجد قانون جلي وواضح يعلو عليها. فسلطة القانون يجب أن تتمثل في هيئة تتولى الإشراف على الإجراءات المسبوقة المتعلقة بما هو مطلوب أو محظور. لكن محكمة الجرائم الدولية تعتبر ممثل الادعاء والمحكمة في وقت واحد. وسيكون من حقها النظر في قضايا التعذيب، المحددة بأنها «أي عمل تسبب عن قصد في إحداث الم شديد ومعاناة، سواء أكان ذلك بدنيا أو معنويا». كما انها ستنظر في جرائم استخدام القوة «المفرطة» والأذى البيئي، ورد ذكرها في معاهدة روما في الفقرة التالية: «شن هجوم خارجي مقصود استنادا الى معرفة سابقة بأن مثل هذا الهجوم سيتسبب في فقدان أرواح أو في جرح مدنيين والحاق أضرار بمنشآت مدنية، أو في ضرر فادح واسع طويل ـ المدى للبيئة الطبيعية ، بما قد يبدو جليا بأنه مبالغ فيه ، وله علاقة بعمل عسكري محدد ومباشر تم التخطيط له». ولأن تأسيس محكمة الجرائم الدولية تم في إطار برنامج عمل بعض صفوة أوروبا ممن يرغبون في الحط أو في تمييع سيادة الدول، فإن بدء أعمالها في هذا الوقت، الذي يتحتم خلاله تأكيد هذه السيادة، لم يكن موفقا. فالإرهاب هو نتاج العنف الذي لم تعد الدول قادرة على كبح جماحه. ولا يمكن السيطرة علية بدون فرض مبدأ إن الدولة تتحمل مسؤولية الإرهاب الذي ينطلق من داخل حدودها.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»