سحب سوداء في سماء الاقتصاد العالمي

TT

كانت كلمتا «اسود» و«سوداء» محجوزتين لوصف الايام او الساعات الاستثنائية السوء في احوال اسواق المال والاسهم العالمية. فبين عام 1929 وعام 2002 شهدت الرأسمالية العالمية اربعة ايام «سوداء» فقط. غير اننا بتنا نشهد الآن يوماً «أسود» كل اسبوع. وخلال الايام القليلة الفائتة خسرت بورصات نيويورك ولندن وطوكيو وفرانكفورت الكثير مما كانت قد ربحته في السنوات الخمس الماضية. وحتى الدولار ذلك العملاق النقدي الاخضر، تهاوى الى ادنى مستوى سعري له منذ منتصف عقد التسعينات، متيحاً لـ«اليورو»، العملة الاوروبية العليلة حتى الآن، فرصة معادلته. مع هذا يتصرف معظم الناس كما لو كانت الاسواق العالمية تمر بحالة ضيق عابرة سرعان ما تزول كسحابة صيف. فالمستهلكون على عدوتي المحيط الاطلسي في اوروبا واميركا، غارقون حتى آذانهم في الانفاق المفرط، بل وامتدت عدوى الانفاق الى اليابان رغم كابوس الركود المطبق على قطاعاتها الاقتصادية بدليل ارتفاع المؤشر الاستهلاكي لأول مرة منذ خمس سنوات.

ولا يقتصر هذا الحال على الافراد، فحكومات عدة تتصرف وكأن كل الامور كما يرام. واوضح مثال على ذلك مباشرة إدارة الرئيس الاميركي جورج بوش في استثمارات ضخمة في حقلي الدفاع والأمن، وها هي الحكومة البريطانية اعلنت بالأمس اعلى معدل انفاق في مجال الخدمات الاجتماعية خلال 20 سنة، كما تعد الحكومة الفرنسية من جانبها العدة للاعلان عن توليفة إنفاق ضخمة مصحوبة بخفض نسبته 30 في المائة على ضريبة الدخل.

ترى أيعرف الفرد العادي ومحترفو السياسة عن الاقتصاد ما لا يعرفه غيرهم بمن فيهم خبراء الاقتصاد؟ وما هو هذا الشيء الذي يعرفونه؟ ربما كان التخلي عن النظر الى اسواق المال والاسهم كمعيار للعافية الاقتصادية العالمية.

في نظام اقتصادي يعتمد على الاعتبارات القصيرة الامد، قد تحدث التذبذبات والتغيرات اليومية في الاسواق، قلقاً هنا وشكاً هناك، غير انها ما عادت كفيلة بإحداث تبدلات في الحقائق الاقتصادية. ولكن مع هذا قد نصل الى يوم يغادر فيه المستثمرون اسواق المال والاسهم بأعداد كبيرة، مما قد يؤدي الى نقص حاد في رؤوس الاموال.

ان الازدهار الاقتصادي الذي عاشته مناطق واسعة من العالم خلال العقدين الاخيرين اعتمد على عاملين اثنين هما الرساميل الرخيصة نسبياً، والتطور التكنولوجي السريع. والواضح اليوم ان معظم الخبراء متفقون على وجود إشباع تكنولوجي يحتم فترة قصيرة من التوقف، وبالتالي من المستبعد توقع مواصلة الاستثمارات في التكنولوجيا المتقدمة، ريادتها في السوق، على الاقل في المستقبل القريب. ومن جهة اخرى، فإن نقص الرساميل على مستوى العالم من شأنه تهديد الاقتصادات الاكثر نشاطاً ومن ثم زج العالم كله في كساد طويل.

لهذا مطلوب نوع من القيادة الحكيمة تمارسه الولايات المتحدة واوروبا، وهذا بالضبط ما لا يلوح في الافق مطلقاً. وطالما احجم هذان العملاقان الاقتصاديان عن التصرف بحكمة، فسنظل موعودين بـ«أيام سوداء» عديدة آتية.