العقاب الجماعي يؤسس لانفجار جديد

TT

كان واضحاً، واصبح اكثر وضوحاً ان ما تطالب به الولايات المتحدة من اصلاحات داخل السلطة الفلسطينية تمحور حول مطالب شارون.

وتتلخص الامور بنقطتين:

الاولى: توحيد اجهزة الأمن الفلسطينية في جهاز واحد، ووضعها تحت إمرة رجل لا علاقة له بـ«الارهاب» او مستعد لمحاربته، اي ان تكون الاجهزة الموحدة سيفاً على كل من يفكر او يخطط او ينفذ عمليات عسكرية ضد اسرائيل.

والبداية هي الاشراف على الاموال التي ترد للسلطة، سواء من الضرائب او من المانحين، او من الجمارك، بحيث لا يتمكن الرئيس، او اي مسؤول من التصرف بأي سنتيم دون اشراف الولايات المتحدة (وبالطبع اسرائيل). وبطبيعة الحال، فان هذا يمكن تلخيصه اكثر بالقول ان «الاصلاحات» التي تطالب بها اميركا باسم شارون هي كف يد الرئيس ياسر عرفات عن اجهزة الأمن وصرف المال، وهذه خطوة على طريق ابعاد ياسر عرفات عن اتخاذ القرار السياسي. فهذا الامر هو نتيجة طبيعية لكف يد الرئيس ياسر عرفات عن ادارة دفة الامن والاشراف على الموازنات المرصودة للأجهزة والمؤسسات والتنمية. نستخلص من هذا ان الولايات المتحدة (نيابة عن شارون)، تريد اقصاء ياسر عرفات عن القرار السياسي المتصل بالحل الدائم في الشرق الاوسط، وهذه هي المسألة الجوهرية التي ولدت كل الصراع الدموي.

فالعدوان الذي شنه ويشنه شارون وحكومته اليمينية المؤتلفة مع حزب العمل يستهدف اخضاع الفلسطينيين واجبارهم على قبول حل هو في الواقع تكريس للاحتلال الاسرائيلي، وضم اكثر من نصف اراضي الضفة الغربية لاسرائيل ضماً نهائياً.

وبما ان ياسر عرفات رفض، سابقاً، ويرفض حالياً، اي تنازل عن حق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة على الارض التي احتلتها اسرائيل عام 1967، وان تكون عاصمتها القدس الشرقية، فان اسرائيل ممثلة بالحكومة الشارونية، تريد التخلص من عرفات او ابعاده عن مركز القرار ظناً منها انه سيكون هنالك فلسطينيون مستعدون للموافقة على مثل هكذا «حل». وهي مخطئة بالطبع.

ياسر عرفات بالنسبة للشعب الفلسطيني وشعوب كثيرة اخرى، رمز للنضال الوطني التحرري، وقائد ملتزم بتحقيق اهداف شعبه الوطنية. وهو منتخب ديمقراطياً من الشعب وباشراف مراقبين من جميع انحاء العالم.

وأيقن الاميركيون (خلافاً لتقارير المخابرات الاسرائيلية) ان ياسر عرفات يتمتع بشعبية عالية بين ابناء شعبه، وانه عندما تجري الانتخابات المنوي اجراؤها في الشهر الاول من العام المقبل، فانه سيفوز بها لا محالة.

لذلك راحت واشنطن تبحث عن طرق للتحايل على نتائج العملية الديمقراطية سلفاً، وذلك بالتركيز على تغيير النظام السائد، وتقليص صلاحية الرئيس فيه (حتى وان كان منتخباً)، وتحويل هذه الصلاحيات لوزراء آخرين ولرئيس وزارة منتظر.

لكن الامر بالنسبة للولايات المتحدة واسرائيل يبقى امراً واحداً: التخلص من عرفات كصاحب قرار سياسي لأنهم مقتنعون انه عقبة في وجه تنفيذ الحلول التي يحاول شارون طرحها على الفلسطينيين.

لكننا لا نعتقد أن ما يفكر به شارون وما يخطط له، هو قدر هذه المنطقة. ولا نعتقد بأن بامكان الولايات المتحدة فرض ما تريده (او يريده شارون) على الشعب الفلسطيني.

ولذلك على الفلسطينيين ان يتعاملوا مع الافكار التي تطرحها الادارة الاميركية بشكل جدي، وان يحوّلوها الى قرارات واصلاحات تخدم مصالحهم الوطنية وتدفع بقضيتهم الى الامام، وان يستعدوا لها كمنصة انطلاق نحو اقامة دولتهم المستقلة واقامة السلام الشامل.

الفلسطينيون هم اول من طالب باصلاحات ديمقراطية على الصعيد الداخلي، وهم اول من طالب بضبط الامور ضبطاً قانونياً، واول من طالب بسن قوانين تضمن الشفافية والمحاسبة، واول من طالب بالضبط والربط في الاجهزة الامنية لتتحول الى اجهزة تعمل على خدمة المواطنين وضمان امنهم وأمانهم، وان لا تكون مراكز مسلطة على رقاب المواطنين.

ولذلك فان هذه المطالب الفلسطينية التي طرحت قبل ان يتحدث عنها الاميركيون والاسرائيليون، هي مطالب حقة، وهكذا يجب ان يتصرف الفلسطينيون، بوعي تام لمآرب شارون والاميركيين. فشارون لا يريد اصلاحاً يخدم مصلحة الشعب الفلسطيني، بل يستخدم هذه اليافطة لقمع الشعب الفلسطيني وابقائه تحت دبابات الاحتلال. الاميركيون يطالبون بتوحيد الاجهزة الامنية تحت قيادة واحدة، وان تحرص هذه القيادة وتضمن عدم انغماس اجهزة الأمن وافرادها في اي عمليات «ارهابية». وهذا ما يريده الفلسطينيون. وهذا يعني ان اللواء عبد الرزاق اليحيى ـ وزير الداخلية الجديد ـ مطالب باعادة بناء الاجهزة والتأكد من افرادها وصلاحيتهم ليكونوا في خدمة المواطن وأمنه وأمانه وليس في خدمة اي غرض آخر.

الاميركيون يفترضون تعيين رئيس وزراء يتحمل المسؤولية، وتكون له صلاحيات موسعة. ونحن نؤيد هذا، فرئيس وزراء قوي وملتزم سيكون قادراً على حمل جزء كبير من الثقل والهموم والمشاكل التي تعترض حياة المواطنين، وذلك من خلال ادارة عمل الوزارات والتأكد من كفاءتها في تطبيق البرامج والتزامها بانجاز ما قرر مجلس الوزراء لها ان تنجزه خلال فترة زمنية معينة.

وهذا سيخفف العبء الملقى على عاتق الرئيس ياسر عرفات، فالوزارات متخصصة ولها برامجها ولا بد من رئيس وزارة يصب جهده على تنظيم وتنسيق عمل هذه الوزارات، وهذا الامر عينه ممكن الآن في ظل الوضع الراهن وفي ظل انغماس الرئيس ياسر عرفات في المعركة السياسية انغماساً كبيراً. فالرئيس حسني مبارك مثلا يدير دفة البلاد سياسياً وأمنياً واقتصادياً بدون ان ينغمس في تفاصيل عمل الوزارات لأن لديه رئيس وزارة كفؤ يقوم بهذا تحت اشرافه، وهذا ما يجب ان يحصل في فلسطين ايضاً.

مشاكل التربية والتعليم والتعليم العالي والشؤون الاجتماعية ووزارة العمل والتجارة والاقتصاد والتخطيط والاعلام والثقافة الخ... كل هذه المهام يجب ان توضع تحت ادارة واشراف ومتابعة رئيس وزراء قادر على تحمل هذا العبء الكبير، بينما يقوم الرئيس ياسر عرفات بادارة الدفة السياسية وشؤون البلاد من خلال مساهمته المباشرة من ناحية، واشرافه على عمل مجلس الوزراء من ناحية اخرى، تماماً كما يفعل الرئيس حسني مبارك.

الاميركيون يريدون آلية لضمان الشفافية بالنسبة للاموال الممنوحة للشعب الفلسطيني، وهذا ما يريده الشعب الفلسطيني، لكن هذا المطلب يجب ان لا يتحول لاداة تمنع تدفق الاموال لاعادة البناء والتنمية في فلسطين كما يريد شارون.

نحن نريد آلية نظيفة تزيد من تدفق الاموال الممنوحة لانتشال الوضع الاقتصادي الفلسطيني المنهار بسبب العدوان الاسرائيلي والحصار وحرب التجويع. ومن مصلحة الشعب الفلسطيني ان يخطط لاستثمار هذه الاموال في مشاريع انتاجية تخلق فرص عمل لآلاف العاطلين، وتبعد الشعب الفلسطيني عن هاوية المجاعة والفقر.

الولايات المتحدة تطالب بآلية المحاسبة وهذا ما يريده الشعب الفلسطيني ايضاً، وهو لا ينطبق على المستقبل فقط بل على الماضي. ولا شك في ان تشكيل هيئة نزيهة وغير منحازة لاعلان ملفات يتحدث الناس عنها هو شيء ضروري، لأن الاشاعات واحاديث الناس قد لا تكون مستندة لحقائق ووقائع وقد تكون. لذلك فان هذه الهيئة ستقطع الشك باليقين وتغلق كافة الملفات، حتى تكون عملية الاصلاح المستقبلية مستندة لارضية خالية من الطعن والتشكيك.

هذه بعض العناوين التي تتقاطع فيها مطالب الولايات المتحدة (بغض النظر عن مقصدها من وراء ذلك) مع مطالب الشعب الفلسطيني، الذي يعرف الجميع ان له هدفاً واحداً هو المصلحة العليا للشعب الفلسطيني. فاذا كان الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول راغبين في اجراء اصلاح فعلي يكون في مصلحة الشعب الفلسطيني فليعملا على سحب قوات الاحتلال الاسرائيلية ودباباتها من المناطق الفلسطينية، لكي يتمكن الشعب الفلسطيني من القيام بالعملية الديمقراطية بحرية ونزاهة، وليس في ظل الدبابات الاسرائيلية، وان يسرعا في زيادة الدعم المادي للشعب الفلسطيني الذي عانى ويعاني الامرين بسبب التقتيل المستمر والعقاب الجماعي الذي تمارسه قوات الاحتلال الاسرائيلي ضده، ويأمل ان يتخذ اجتماع نيويورك القرارات الضرورية واللازمة لانهاء معاناة شعب بأكمله يقبع حتى الآن في معسكرات اعتقال جماعية ويجبر على البقاء في المنازل والأكواخ بدون عمل وبدون علاج وبدون حركة. ان العقاب الجماعي وان استمر، سيولد انفجاراً.