المكارثية الصهيونية ومطاردة «السحرة»!

TT

يحمل «المجلس المركزي لليهود»، ممثل اللوبي اليهودي في المانيا، عقدة الذنب الالمانية بمزيد من فوبيا «العداء للسامية» التي يجري رفعها كطوطم مقدس، بل كقدس اقداس جرى انتهاكه ضد كل من يجرؤ على قول الحقيقة المسكوت عنها، وهي ان اسرائيل وجه آخر للنازية.

والبعبع الممثل به في هذه الايام والذي يشهده «المجلس المركزي لليهود» وعبره اعلاميون وساسة المان، هو النائب السوري الاصل جمال قارصلي، المطارد «مطاردة السحرة» من حزب الى حزب، ومن تكتل الى تكتل، لأنه وصف (عن حق) ممارسات الجيش الاسرائيلي في الاراضي المحتلة بالممارسات النازية. ثم طالت تهمة «معاداة السامية» نائب رئيس الحزب الليبرالي يورغن موللمان الذي رحب بانضمام قارصلي الى حزبه بعد استقالته من حزبه الاصلي (الخضر)، وقد اضطر موللمان تحت ضغط من رئيس حزبه واعضاء نافذين فيه الى الاعتذار في مؤتمر صحافي قائلا: «اذا كنت قد جرحت مشاعر اليهود فإني اعتذر..» وهكذا تنجح المكارثية الصهيونية في مطاردة كل من تجرأ على قول الحقيقة البسيطة.

ان هذه الحادثة تعيد الى الاذهان ما تعرض له احد ابرز كتاب المانيا، هو مارتن فالزر، الفائز بجائزة «السلام» الالمانية عام 1998 وحازها لأن اعماله الادبية «شرحت للألمان وافهمتهم بلادهم، وشرحت للعالم وافهمته المانيا» كما جاء في براءة الجائزة. وبمناسبة فوزه بجائزة السلام اقيم احتفال في كنيسة بولص بفرانكفورت حضره مئات المدعوين في مقدمتهم رئيس الجمهورية. وكان بين الحضور رئيس «المجلس المركزي لليهود في المانيا» الذي سيأتي دوره! القى مارتن فالزر خطابا بليغا، استمر نحو الساعة والنصف ونقله التلفزيون مباشرة، وقد تركز مضمونه حول حاجة الالمان الى السلام مع ماضيهم، ذاكرتهم وبالتالي مع انفسهم، من خلال التحقق مما يسميه فالزر: «عبئنا التاريخي، العار الذي لا يزول. ما من يوم يمر إلا ونعيّر به» ويقصد بالطبع الهولوكوست الذي تحول الى صناعة ربوية ينتهجها اللوبي اليهودي في شكل جديد للمضمون الشايلوكي الابتزازي، يعتاش على نهش ضمير الالمان عبر جعل اتهامهم بماض لم يعيشوه اتهاما «روتينيا في وسائل الاعلام» حسب فالزر الذي اراد، من خطابه المسبوك ببلاغة المانية متقنة، ممارسة حقه، وحق كل الالمان، في الكلام بصوت عال عن ماضيهم كما يرونه هم، لا كما يرغب اللوبي اليهودي ان يريهم اياه خدمة لمصالح السياسة الاسرائيلية (دولة النازية الجديدة) التي اتخذت من حكاية «المحرقة» وسيلة للابتزاز الاخلاقي والمالي وشراء المواقف السياسية الذليلة واسكات كل صوت يحاول ان يخرج عن حلبة رقص الادمغة المغسولة على ايقاع اللحن العبري الصهيوني.

لقد عزم فالزر على الكلام، ان يستنطق المسكوت عنه، ان يمارس حقه في الشك، فـ «عندما تقوم وسائل الاعلام كل يوم بتعييري بهذا الماضي، ألاحظ ان شيئا ما في داخلي يعارض هذا العرض الدائم لعارنا..» انه لا ينكر كما لا ينكر غالبية الالمان معسكرات الاعتقال النازية في اوشفيتز وغيرها. لكنه يريد، معبرا بضميره عن ضمير شعبه، ان يفهم: «لماذا يجري في هذا العقد (يقصد عقد التسعينات) عرض الماضي كما لم يحدث في وقت آخر قط، وعندما الاحظ ان شيئا ما في داخلي يعارض ذلك، احاول ان اكتشف دوافع التعيير بعارنا، وافرح تقريبا عندما اظن انني اكتشفت ان الذكرى ليست هي الدافع وانما استخدام عارنا اداة في سبيل تحقيق غايات راهنة..».

ان دوافع التعيير كما هي دوافع التشهير بـ «جرم معاداة السامية» هي شكل من اشكال الابتزاز الشايلوكي، متاجرة لا اخلاقية بذكرى ضحايا النازية من اليهود للتغطية على الهولوكوست الصهيوني النازي القائم على ابادة الفلسطينيين عبر سلسلة من الجرائم منذ عشرات السنين.

لقد اعاد اللوبي اليهودي انتاج منطق شايلوك، نهاش اللحم الحي، ليكون: «تهديدا روتينيا، وسيلة تخويف قابلة للاستخدام في كل وقت، او هراوة اخلاق او مجرد واجب الزامي..» لمطاردة المثقفين والسياسيين الذين قد يجهرون بالحقيقة، اذ يغدون عندها فريسة لنهش ذئبي هستيري، كثيرا ما اجبر عديد المثقفين والسياسيين على الاعتذار عن قول الحقيقة، بل وصل الامر ببعضهم الى البكاء ندما وطلبا للمغفرة وكأنهم انتهكوا محرما لا يمس! وعندما انهى فالزر خطبته البليغة وقف كل الحاضرين يصفقون له بحرارة، بينما ظل اغنر بوبيس، رئيس المجلس المركزي لليهود في المانيا، وزوجته جالسين يكظمان غيظهما. ومن باب الصدفة الموضوعية فإن اغنر يختزل روح «شايلوك حديث»، فهو تاجر مجوهرات وعقارات ومالك بيوت دعارة. وقد اتخذ منه المخرج الالماني الكبير، فاسنيدر، موضوعا لمسرحية تعيد توظيف مسرحية «تاجر البندقية» الشكسبيرية في صورة «تاجر فرانكفورت»، لكن المسرحية منعت، بالطبع من العرض تحت ضغط «تعيير» اللوبي اليهودي للضمير الالماني.

وامام «كنيسة بولص» وقف اغنر بوبيس امام وسائل الاعلام متهما مارتن فالزر بأنه «مشعل حرائق فكري» وذلك ايذانا بانطلاق حملة مطاردة احد «سحرة» الفكر من اجل إحراقه معنويا. لكن فالزر كان محميا باحترام غالبية الالمان له، وقد رد في اليوم التالي على تصريح بوبيس بالقول ان الحاضرين وقفوا مصفقين له: «اذن لقد صفق 1200 شخص لاشعال حريق فكري. الى هؤلاء ينبغي على السيد بوبيس ان يتوجه». لقد هتك فالزر بخطبته، المسكوت عنه، والممنوع من التداول والخوف من التعبير عما يفكر فيه. وكما لاقت خطبة فالزر نقدا وتجريحا وتشهيرا متعمدا من قبل كتاب ومعلقين موالين او خاضعين لوسائل الاعلام اليهودية، لاقت الخطبة تأييدا قويا من القراء الالمان وكثير من الكتاب والسياسيين، لأن خطبة فالزر، حسب احد كبار السياسيين الالمان، «كانت شكوى الماني ـ غير يهودي ـ من محاولات آخرين (يقصد اللوبي اليهودي) متكررة كثيرا للحصول على منافع خاصة بهم من ضميرنا، واستغلال هذا الضمير، لا بل تضليله..».

واذا كان لمفهوم «مشعل حرائق فكري» بعد ايجابي، وهو كذلك، فإن فالزر اشعل حرائق اسئلة كان محرما طرقها، فاستمر النقاش حولها عدة اشهر شاركت فيه وسائل الاعلام المختلفة في حضور مكثف لمثقفين وكتاب ومفكرين ومحللين واساتذة جامعات ورجال دين وسياسيين. وعندما مات اغنر بوبيس ودفن في تل ابيب تنفيذا لوصيته، قال عنه رسام اسرائيلي على معرفة وثيقة به: «كان لصا ونصابا وكذابا»! f [email protected].