تجليات «الأخ الأكبر» تستبق «الشمولية» إلى برامج التلفزيون

TT

ما سر شعبية حلقات «الاخ الاكبر» في التلفزيونات الاوروبية؟ وأي اسم كريه الدلالة اختاره مبتكرو المسلسل الدرامي/الواقعي! الاخ الاكبرأو Big Brother? اسم ورد في عمل أدبي قبل اكثر من نصف قرن رمزا للسلطة الكاملة المهيمنة على الفرد، وكانت على شكل شاشات تلفزيونية يطل منها ممثلو القائد ليتلوا تعاليمه من جهة، ويراقبون أفكار الافراد من جهة أخرى. أجواء قاتمة وكئيبة قدمها الكاتب البريطاني جورج أورويل في رواية (1984) كتبها أواخر الاربعينات من القرن الماضي، متنبئا بتحول الانظمة السياسية في المجتمعات بشكل عام الى مجتمعات شمولية لا حرية فيها للفرد لأن يفكر بشكل مستقل عنها.

وكأنما طال انتظار الاوربيين للنبوءة فقرروا استثمار شكلها الخارجي في برنامج يعتمد على مجموعة عشوائية من الاشخاص المتطوعين، موجودين كلهم في بيت واحد. البيت معزول عن العالم الخارجي لكنه مزود بكاميرات مفتوحة طوال اليوم في جميع زوايا المكان. ومن هنا تخلق دراما واقعية تشبه التنصت على ما يدور في بيت الجيران (شرط ان يكونوا جيران غير محترمين) لا من طرف الشباك أو فتحة الباب، بل من كامل سعة عدسة الكاميرا التلفزيونية التي تلتقط أدق تفاصيل ما يجري في البيت من أحداث وحوارات يفترض أنها متروكة على طبيعتها، فلا سيناريو هنالك ولا حوارات مسبقة، ومسار الحلقة بأكمله يعتمد على سلوك الاشخاص الذين هم من خارج كادر الممثلين المحترفين ويتم اختيارهم من بين الاشخاص الذين يتقدمون للمنافسة.

أما شعار البرنامج و«اللوغو» الذي يقطع المشاهد فهو عين واحدة ترمش، رمشة العين المتجسسة.

حتى الآن لم أجد ما هو ممتع في هذا البرنامج الذي لا أدري إن كان مصطلح (واقعية تسجيلية) ينطبق عليه. إنه برنامج ممل بحواراته التي لا تتعدى الوقائع اليومية، أما الاحداث فلا تبدو مثيرة بالمعنى الدرامي، مثلما يحدث عندما يتابع المرء دراما رفيعة المستوى. ما يحدث داخل البيت يشبه ما تنشره صحف الاثارة، تفاصيل مملة مثل: من الشخصيات أحب من، ومن تشاجر مع غيره من سكان البيت. أو أن تقدم احدى الشخصيات على تصرف يثير ضجة بين أوساط المتابعين، وقد تتطور الاحداث التي تثير غبارا مؤقتا كما حدث عندما سمحت احدى النساء المشاركات للكاميرا التقاط صور لها أثناء استحمامها، الأمر الذي أثار حفيظة المؤسسات التعليمية في بريطانيا كونها في الأساس معلمة، وأي سلوك تقدم عليه سيعد قدوة لتلاميذها.

شعبية المسلسل الذي تتجدد شخصياته بين فترة وأخرى فاقت الخيال: موقع خاص على الانترنت، والصحف الشعبية المعروفة باسم صحف التابلويد تناقش تفاصيله وتبرز شخصياته الذين تحولوا الى نجوم مشهورين في مجتمع مهوس بالمشاهير. شهرة المسلسل انطلقت مثل النار فعمت جميع التلفزيونيات الاوروبية التي انتجت نسخها بلغاتها الخاصة، وطالما أن عددا كبيرا من الناس يشاهدون المسلسل فقد استغلته الشركات التجارية لتقدم أغراضا مجانية للبيت الذي يجري فيه التصوير، ومن ثم تعلن من على موقع الانترنت عن كيفية شراء قطعة من أثاث البيت أو اكسسواراته..! تعكس حلقات «الاخ الكبير» أزمة التلفزيون البريطاني وفشله في اجتذاب أضخم عدد ممكن من المشاهدين، فبعد وصول حلقات المسلسات اليومية الشعبية أو ما يعرف باسم (soap opera) الى أبعد مدى من الاثارة، كالعلاقات المحرمة، وملل البعض منها، بدأت البرامج التي تعتمد على الجمهور في الاستوديو المنافسة بابتكار شخصيات يفترض أنها حقيقية، تستضيفها في برامجها كنموذج لمواضيع الحلقات: هروب المراهقين من البيت، الخلافات العائلية ومشاكل أخرى. وقد بدأت الفضائح تتكشف عندما تعرف بعض المشاهدين على أشخاص يعرفونهم جيدا قدموا لهم بصيغة مغايرة لحقيقتهم.

وبدأت الانتقادات الصحفية والرسمية تتوجه بقسوة لمنتجي البرامج الذين تحجج بعضهم من أن الذنب يقع على مساعديهم، فبدل ان يلجأوا للحالات الحقيقية زيفوا الاشخاص مقابل مبلغ من المال. ومن أشهر الفضائح ما حصل مع برنامج (كيلروي) الذي استضاف احد المجرمين المشهورين باغتصاب الاطفال paedophile بعد ان خبأت الكاميرا وجهه، وراح يتحدث بالتفصيل عن الجرائم التي ارتكبها وعن دوافعه الخ، مصرا على انه لا يستطيع ان يقاوم رغبته هذه. لكن الشهادة استفزت عددا من المشاهدين فاتصلوا بالشرطة الذين توجهوا بدورهم الى الاستوديو حيث كان البرنامج يبث مباشرة، واعتقلوا الرجل. الا ان الرجل فاجأهم باعتراف أكثر اثارة: أنه كان يكذب من اجل الحصول على المال لقاء ظهوره في البرنامج. واذا كان الامر قد مر بسلام مع كيلروي مقدم البرنامج الذي لم يثبت عليه تورطه بالخديعة، فإنه انتهى مع مقدمة برنامج (فانيسا) بالعقاب، اذ قررت محطة الـ«بي بي سي» وقف البرنامج بعد أن تعددت الشكاوى ضده. وطال التزييف برامج وثائقية محلية زورت فيها الوقائع أو تم التلاعب بالمونتاج لاثبات حقائق هي أكاذيب، مثل اتهام شخص ظهر في احد الافلام التسجيلية بتهريب المخدرات واضافة فقرة مخترعة توحي بان هناك طرقا على الباب من الشرطة. الرجل احتج وقاضى فريق الفيلم لتضاف فضيحة اخرى عن عدم الصدق في التلفزيون.

(الاخ الاكبر) هو حل جديد لمحطة تلفزيونية أرادت جذب الجمهور الملول الذي أتخم بكل أنواع الاثارة. واذا كان البرنامج قد حل عقدة المحطة فماذا عن المشاركين فيه؟ كيف ينظر هؤلاء الاشخاص الى مسألة تعريض أنفسهم لمراقبة دائمة مثل فئران المختبرات، وفي بريطانيا خصوصا حيث الشعب متحفظ لأبعد الحدود، الانجليز تحديدا يبدأون حوارهم مع الآخرين بالحديث عن الجو ليس لأنهم موسوسون بالانواء الجوية، بل لأنه الموضوع العازل الذي يقول للآخر هذه هي حدود حوارك معي فلا تتجاوز حدودك لموضوعات أكثر حميمية.

«باخت» اذن فكرة «الاخ الاكبر» كما تصورها الكاتب أورويل. حمدا لله أن نبوءته وجدت لها هذا المسار ولم تتجسد على شكل مجتمع يصل في شموليته الى أن يضع شاشة تلفزيونية وكاميرا في كل بيت!. لكن المفارقة أن عيون «الاخ الاكبر» الاصلية لا التلفزيونية، وسعت من طاقاتها الى حد قراءة ما في الصدور، ومن أين له ولأجهزته فرصة أفضل من قراءة رسائل الانترنت والتنصت على مكالمات البشر!. أعتقد ان الاشارة واضحة، اما الرقابات المحلية فهي مجرد (اخوة صغار) لم يتعدوا مرحلة الهواة قياسا بالـ (Big Brother).

* كاتبة سورية مقيمة في بريطانيا. [email protected]