الأمير المثقف .. والإنسان

TT

صدمتني وفاة الامير احمد بن سلمان، فقد كان عهدي به ممتلئا بالصحة والحيوية وشباب البدن والروح، ولم اكن أعرف شيئا عن مرضه. وكنت مثل كثيرين غيري في مؤسستنا الصحافية، ننعم بحالة من الطموح والثقة بالمستقبل، والرغبة في التجديد والتفكير الحر الشجاع، ذلك ان الامير احمد بن سلمان الذي كان يدير المؤسسة كان هو نفسه يتحرك من نفس الارضية الثقافية والفكرية التي ننطلق منها. وحتى نحن الجيل القديم من الحالمين بمستقبل افضل، والذين تأرجحنا بين الاحباط والامل، بدأنا نشعر بالابتهاج، وربما بشيء من الدهشة. فعندما قابلت الامير احمد اول مرة فوجئت بأنني اتحدث واداعب شابا من «الانتلجنسيا» العربية الناشئة في قلب الثقافة العالمية المعاصرة، وانني ارى جيلا جديدا من المثقفين العرب لم تتجاذبه التناقضات الثقافية والفكرية التي عرقلت تطور هذه الامة، فهذا الجيل من الشباب يعيش في قلب العالم الحديث، ولا يجد تناقضا بين ان يكون معاصرا واصيلا في الوقت نفسه. وكان هذا بالنسبة الي شيئا جديدا ومثيرا للدهشة.

ومنذ تلك اللحظة نشأت بيني وبينه علاقة ود ومحبة وثقة في المستقبل. وقد قابلت بعد ذلك عددا من شبان «الانتلجنسيا» السعودية التي تشارك الامير احمد بن سلمان الاهتمامات والطموحات، وكانوا نتاج حركة التعليم الباهرة التي نشأت في المملكة العربية السعودية، والتي كان رائدها في الاصل الملك فهد بن عبد العزيز منذ كان مسؤولا عن التعليم في المملكة. والآن وبعد عدة عقود انتشر خلالها الطلاب السعوديون في أوروبا وامريكا بأعداد كبيرة، صرنا نلتقي بثمار هذه الحركة ونتبين ان «النخبة» السعودية المثقفة والتي استوعبت سريعا في الانشطة التنفيذية والاجتماعية تدفع المجتمع السعودي الى مشارف الحداثة بمفهومها العقلاني، وروحها الواثقة والمتألقة بالامل والمبتهجة بحريتها. لهذا كان الامير احمد بن سلمان عصريا ومرحا وواثقا، غير مضطرب أو متردد.

والثقافة المعاصرة الحقة تنشئ ـ عادة ـ قواما اخلاقيا رفيعا، يفهم انسانيته وحجم هذه الانسانية في هذا الكون البالغ الاتساع والتعقيد. وربما يكون حب الحقيقة والتزامها من اكبر منجزات هذه الثقافة، وهذا هو ما كان يجسده الامير احمد، ببساطة وعلى السجية.

ان سلوك الامير الراحل الاجتماعي القائم على المشاركة والتعاطف شيء معروف عنه، ولكني لم ازل أسير موقف من هذه المواقف. فعندما مرضت المرحومة زوجتي قررت ان اصحبها للعلاج في الولايات المتحدة وكنت احاول تجميع القدر الممكن من المال اللازم، واذا بي افاجأ بالزميل والصديق عثمان العمير الذي كان رئيسا لتحرير «الشرق الاوسط» في هذا الحين يأتيني ليخبرني ان الامير احمد بمجرد سماعه بمرض زوجتي قرر ان يساهم معي في مصاريف العلاج الباهظة، ولم اكن قد طلبت شيئا، أو فاتحته اصلا في الموضوع، وكم كانت هذه المشاركة بالغة التأثير واشعرتني انني لست وحيدا في مواجهة ظروف بالغة الصعوبة.

هذا التكوين الرفيع من المعرفة والخلق كان مدهشا بالنسبة لي، واشبه بالاكتشاف وكان من الاشياء الباهرة التي تنقذنا من لحظات اليأس والاحباط في عالم مضطرب يفتقر الى العدل والمشاركة الانسانية.

واليوم، وانا أتأمل هذه الفاجعة، أرى ان مرور الامير احمد بن سلمان السريع في حياتنا لم يكن عبثا، ولم يكن شيئا عارضا، وانه كان اشبه بنسمة امل ووعد بحياة افضل ستظل تحوم حول حياتنا واجيالنا المتتابعة الى امد طويل.