يُفتَقدون

TT

عرفت الديبلوماسية الاميركية في القرن الماضي عددا من «الحكماء» و«صائدي المشاكل» الذين دخلوا التاريخ كعقلاء تمكنوا من عقد التسويات وتحقيق المهادنات وتجنب الحروب. وعرفت في المقابل رجالاً من نوع آخر، ولدوا وعاشوا وغابوا وهم على قناعة بأن الحرب هي الحل الوحيد وان الموت الجماعي هو الطريق الاقصر الى السلم والطمأنينة والأمان. واذ يتطلع المرء الآن الى ادارة جورج بوش يحاول ان يبحث عبثاً عن جورج كيتان او جون كينيث غالبريت (كلاهما تجاوز التسعين ولا يزال يكتب) او عن افريل هاريمان او جورج بول وسواهم. لكن ادارة بوش ليست سوى مجموعة من «الصقور»، في حال تأهب دائم للحرب، كما انها تستعد للانقضاض على اليتيم الوحيد في حزب الحمائم، والعسكري الوحيد، كولن باول. ويقول الكاتب وليم باف، وهو احد الاصوات الهادئة القليلة في الصحافة الاميركية اليوم، ان الجنرالات في الادارة يقفون ضد الحرب في العراق لأنهم يعرفون ما هي الحرب، في حين يحرض السياسيون عليها لأنهم لا يعرفون عنها شيئاً.

ويقود جورج بوش الى الحرب شعور بأن ضرب العراق سوف يمنحه شعبية كبرى في اميركا ويمهد له طريق التجديد ولشقيقه حاكم فلوريدا اعادة الانتخاب. وتعارض الدول الغربية او الاطلسية جميعها هذه النزعة وترى في مثل هذه الحرب مغامرة بائسة لا ضرورة لها. وفي كتابه «مذكرات من زمننا» يقول جون كينيث غالبريت ان ايزنهاور ربح معركة التجديد عندما قال للاميركيين خلال الحملة انه «ذاهب الى كوريا» لانهاء حالة العداء مع الشماليين. ويضيف غالبريت وكأنه يصور حالة اميركا اليوم: «لقد كان للحرب الكورية، اضافة الى الخسائر في الارواح والمال، تأثير السم على السياسات الاميركية: مطاردة المعارضين، جنون الحرب الباردة، الحماقات الديبلوماسية والكوارث الخفية التي ارتكبها الشقيقان داليس (جون فوستر وآلن) كلها اشياء غذتها الحرب». ثم يقول غالبريت «ان السلم، مهما كان سريع العطب، افضل من اي حرب».

لكن جورج بوش ليس بالتأكيد ايزنهاور. انه، وفقاً لقاعدة وليم باف، السياسي الذي لا يعرف عنها شيئاً وليس الجنرال الذي خاضها. ثم ان الحرب الحديثة الآن، في فكر بوش ورامسفلد، سوف تكون حرباً من الجو تدمر ولا ترى ماذا فعلت. وسوف تكون مزيجاً من حرب الاطلسي في بلغراد والحرب الاميركية في افغانستان. اي ان القوات لا تنزل الى الارض الا بعدما تكون قاذفات الـ«بي فيفتي تو» قد حصدت عن علو 40 ألف قدم كل ما يراه الرادار ولا تقع عليه عين.

المشكلة في ادارة بوش ليست غياب «الحمائم» بل غياب الحكماء وفكرة الديبلوماسية والوساطة. ويتجلى ذلك في غياب هذا النهج تماماً في العراق وفي النزاع العربي ـ الاسرائيلي، فقد تخلت واشنطن عن الشأن الفلسطيني كلياً برغم استقبال الوزراء الثلاثة. وهي لا تشير حتى في صورة ديبلوماسية الى المسار السوري المعلق منذ 1996. وفي الماضي كان يصدر عن العاصمة الاميركية حديث مساعدات انمائية او انسانية، هنا وهناك، لكن الآن يعلو صوت المستر رامسفلد فوق كل صوت. وتوسع المؤسسة الاميركية جبهة المواجهة من ايران والعراق الى السعودية، التي يصورها فريق بأنها «العدو الحقيقي» بينما يعلن «مؤرخ الاسلام» برنارد لويس في «الفايننشال تايمس» ان «الوهابية هي النازية الجديدة». وعلى نحو مريب يغيب صوت العقلاء والعارفين ومؤرخي الحقائق.