الآخرون

TT

في عالم اليوم الذي يتسم بالعنف والصراع ولا يكاد يمر يوم دون أن تنقل لنا نشرات الأخبار بالتلفزيون أخبار الحرب والقتال والدمار في كثير من بقاع الأرض، أصبح الإنسان في أشد الحاجة إلى كلمة طيبة أو لمسة حانية من صديق تعيد إليه طمأنينة النفس وتعيد إليه ثقته في إنسانية الإنسان.

إن المتابع للصحف البريطانية لا تفوته ملاحظة كثرة التقارير والقصص الإخبارية التي تتحدث عن التغير الذي طرأ على سائقي سيارات الأجرة سوداء اللون التي تجول شوارع لندن والذين كانوا مضرب الأمثال في العدوانية وفي عدم مراعاتهم لشعور الزبائن، حيث تبدل حالهم وأصبحوا على نحو مفاجئ مضرب الأمثال في الرقة والذوق الرفيع، فلا يكاد المرء يشير إلى سيارة تاكسي في شوارع لندن حتى يجد السائق أمامه يبتسم إليه في مودة وأدب جم وطوال الطريق يبدي السائق اهتماما غير عادي بأسئلة الراكب ويجيب عليها بصدق وإخلاص، وعند نهاية الرحلة يرفض السائق بإباء الحصول على أي مبلغ إضافي على أجرة التوصيل وهو ما يسمى بالبقشيش.

ظاهرة الارتفاع في معدلات استهلاك الورود والزهور التي تشهدها معظم دول العالم تدل أيضا على تنامي شعور الفرد في القرن الواحد والعشرين بحاجته إلى التعبير عن حبه للآخرين من خلال باقة ورد يبعث بها إلى صديق يحتفل بمناسبة سعيدة أو يحملها معه عند زيارته لقريب أو حبيب يشكو من وعكة.

هل مل الإنسان الصراع واللهاث من أجل إحراز النجاحات والانتصارات دون أدنى اهتمام بمن يسقط في ساحة الصراع ودون أن ينظر إلى ما فقده من خصال طيبة وقيم عليا أثناء سعيه إلى تحقيق المكسب المادي؟ أتراه حين وقف لالتقاط الأنفاس نظر إلى داخل نفسه فوجدها فارغة وإلى روحه فوجدها خربة؟

يبدو أن الإنسان عندما يتوقف لبعض الوقت عن الجري واللهاث ينظر حوله فلا يجد الصديق أو الحبيب، عندئذ لا يجد أمامه غير جهاز الكومبيوتر والشبكة الدولية للإنترنت فيفتحها ليصطنع له صديقا عبر البريد الإلكتروني، لكنه يفاجأ بلغة صناعية باردة وبعيدة تماما عن اللغة الحميمة التي يعرفها جيدا الأصدقاء والأحباب.

في بحث أجرته مؤسسة «كاديندج» بانجلترا تحت عنوان «العالم تغير» جاء فيه أن المعرفة والمهارة لا تمثلان سوى 15% فقط من أسباب نجاح الإنسان في عمله والنسبة الباقية 85% تمثل سلوكيات الإنسان ومهاراته في التعامل مع الآخرين.. حتى أن كليات التجارة بالجامعات بدأت تدخل في مقرراتها الدراسية دراسة السلوكيات والذوق الرفيع ومهارة التعامل مع الآخرين.. بجانب حسابات الربح والخسارة والإنتاج والتسويق.