زوبعة «راند» ليست بلا ضجيج

TT

على الرغم من أوصاف التطويق الديبلوماسي الأميركي والسعودي التي أطلقت حول ما أثاره إعلان التقرير المقدم من (لوران موراويس) إلى المجلس الاستشاري لوزراة الدفاع الأميركية، والذي دعا فيه إلى توجيه إنذار إلى المملكة العربية السعودية بالتوقف عن دعم الارهاب، وإلا استولت أميركا على حقولها النفطية واستثماراتها وأرصدتها في الخارج، بسبب حساسية الموقع والزمان الذي انطلق منه التقرير، لكنه ينبغي ألاّ يغفل من قبل المثقفين والسياسيين العرب، ليس لما حمله من عبارات حادة ومباشرة على بلد عربي مهم في ظرف حساس ودقيق، ولكن لكونه يأتي جزءاً من نشاطات سياسية وإعلامية واسعة متعددة الأطراف تديرها مراكز وتجمعات اللوبي اليهودي واليمين المحافظ في الولايات المتحدة، يمتد زمنها إلى ما قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001، استهدفت العاصمتين العربيتين (الرياض والقاهرة) لما تشكله مواقفهما من تأثير مباشر على الموقف السياسي العربي العام، وتكثفت باتجاه الرياض بعد الحادي عشر من سبتمبر، لا لسبب شكلي يتعلق بالتبعية السعودية لغالبية المنفذين لهجمات برجي مركز التجارة العالمي، وإنما تحت شعور متصاعد بين الأوساط اليهودية واليمينية، والتي أصبحت حالياً ذات تأثير في توجيه السياسة الأميركية، بضرورة استثمار المناخ الجديد وتنفيذ الجزء الأكبر من الخارطة السياسية الجديدة وبشراكة الدولة العبرية التي تجد في الاستهداف المباشر للمركز الروحي العربي والاسلامي الذي تمثله الرياض، والاجهاز على القيم التي تدافع عنها وتشكل هوية نظامها السياسي ودولتها، حلقة أساسية تمر عبر عمليات ابتزاز سياسي واعلامي مكثف وبميادين ومواقف متعددة وفي ملفين متشابكين خطيرين هما الفلسطيني والعراقي، معروف عن السعودية إنها لا تخضعهما للحسابات التكتيكية العابرة، وإنما يقعان في جوهر المبادئ الاستراتيجية لسياستها الخارجية. فعلى صعيد الملف الفلسطيني، تلقت تلك الدوائر والمؤسسات الأميركية الرسالة السعودية خطأ في دعوتها، ثم مصادقة مؤتمر القمة العربية لاحقاً على مبادرة للحل السياسي السلمي لأزمة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي وفق العدل والمشروعية الدولية. وحاول الحاكم الإسرائيلي «شارون» أن يضع العربة قبل الحصان، ويطالب الرياض بالحوار المباشر والتطبيع في الوقت الذي تدّك قواته مدن ومخيمات الفلسطينيين بالقنابل والصواريخ. ولم يتردد من التشويش على المبادرة التي أصبحت السعودية من خلالها لأول مرة في واجهة العمل الديبلوماسي العربي لحل القضية الفلسطينية، لشعوره ومن معه من مناصري دولته في الولايات المتحدة المتغلغلين داخل مراكز البحوث والدراسات والمجالس السياسية المساعدة على صناعة القرار السياسي الأميركي، بأن السعودية لاعب ماهر لتطوير الحل السياسي العادل في المنطقة، وخلق مناخ وبيئة سلام واستقرار نسبي لأهلها، يساعدهم على تركيز جهودهم نحو بناء تنمياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وهو أمر يتناقض مع الاستراتيجية الإسرائيلية العدوانية وسياسة تخزين ترسانة السلاح النووي، ويضيق الفرص أمام تنفيذ خرائط التوسع والأطماع في المياه والنفط عبر تقسيم جغرافي وجيوسياسي جديد يسعى لخلق شقوق وشروخ عرضية ما بين الأرض والسلطة والثروة داخل البلدان العربية ذات الوزن الاستراتيجي وفي مقدمتها السعودية والعراق ومصر وسوريا. ولا يشك أي مراقب في أن تلك التشويشات، وعمليات الخلط الاعلامي والتي في مقدمتها الاتهامات الظالمة بأن الرياض «مركز تفريخ الإرهاب»، والتي ترمي إلى انتزاع الدور الديبلوماسي العربي أو إضعافه، قد تغلغلت داخل أوساط الإدارة الأميركية، وضاعفت من انحيازها للسياسة الاسرائيلية في أخطر مواقفها وهي ذبح الشعب الفلسطيني. وظلت هذه الأدوار متواصلة عبر تسريب العديد من المقالات في صحيفتي (الواشنطن بوست والنيويورك تايمز) والتصعيد العلني إلى دوائر الاستشارة الرسمية السياسية والعسكرية، وقد زاد من حدتها في الأيام الأخيرة الموقف السعودي الرافض لضرب العراق أو غزوه عسكرياً، وعدم تقديم تسهيلات لوجستية للقوات الأميركية المهاجمة لهذا البلد العربي، ليس دفاعاً عن بقاء نظامه السياسي الحالي، وإنما تعبيراً عن سياسة سعودية عامة ومعروفة هي ابتعادها عن نسج مؤامرات قلب أنظمة حكم عربية أخرى، وما قدمته من رعاية وضيافة للمعارضين العراقيين عام 91 كانت تحكمه ضوابط الحرص على وحدة العراق وهويته العروبية والإسلامية، ولاحقاً عبّر أكثر من مسؤول سعودي عن رفض الرياض للغزو العسكري، ودعم أي سعي وطني عراقي داخلي لتغيير نظام الحكم في هذا البلد. وهو ما يؤكد القلق السعودي المشروع على المستقبل السياسي الغامض للعراق، وتزيد منه الطروحات المتطرفة ومن بينها تقرير (موراويس) والتي تنسج سيناريوهات لذلك المستقبل تجعل منه قاعدة أميركية استراتيجية عسكرية ونفطية، تسهل بعدها عملية الاجهاز على نظامه السياسي وهويته الاسلامية. ومهما يقال عن عمق الصداقة الأميركية ـ السعودية وتعدد مصالحها، والحرص المتبادل بين الحكومتين على تطويرها، الا ان هناك في الجانب الآخر دعوات متنامية توجهها دوائر اللوبي الصهيوني مسموعة لدى صالونات صناعة القرار الأميركي تسهّل تنفيذ مخططات إعادة صياغة الخارطة السياسية في المنطقة تحمل أسبقيات حسب تعبير كسينجر (بغداد أولاً) ثم (القدس ثانيا)، ثم تتوالى قائمة الأسبقيات لأعداء المصالح الإسرائيلية، وقد يكون (موراويس) قد تعجل بتحليلاته مستسهلاً وضع (الرياض) في المدى المنظور لتلك الأسبقيات. ليس من الخيال القول إن الأميركان يريدون دخول العراق، والتوطن فيه، لأنه البيئة الأصلح، والبوابة الشرقية الأوسع والنافذة الأكثر شفافية ليتحدثوا للعالم من خلاله، وتسهل عليهم محاربة «الإرهاب» من دون وسائط.. ويتوقعون إنهم يجاورون منابعه حسب ما يعتقدون، ومنابع النفط، ويربطون شبكات الغاز والنفط من آسيا الوسطى وعبره إلى المتوسط والمحيط. ما يكتبه الاستراتيجيون من بحوث وتقارير تقدّم إلى مراكز صناعة القرار السياسي في واشنطن ليس خيالاً أدبياً أو صحفياً، لأن آلية القرارات هناك تخرج من تلك التوصيات وليس من غيرها.. وعلى سبيل المثال، قبل أيام قليلة كانت توقعات الطبقة السياسية العربية الرسمية تقول بأن ضرب العراق لا بدّ ان يتم بعد حل مشكلة الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وإلى جانبها كانت تقارير الاستراتيجيين في أميركا وإسرائيل تقول (بغداد أولاً)، وها هي الإدارة تنحاز إلى ذلك الخيار.. وقد يكون ما يقوله البعض الآن (الرياض أولاً) مثيراً للسخف والسخرية، لكنه قد يكون واقعاً في المستقبل من وجهة نظر المتطرفين عند الطرف الآخر.. ولهذا فإن التنبيه إلى ما يدور داخل مراكز البحوث والاستشارات والدوائر الاعلامية الكبرى في الولايات المتحدة لا يعني الدعوة إلى تأجيج صراع العداوة لأميركا مثلما يتصور بعض الكتاب العرب. وإذا كان للحكومات محدداتها الديبلوماسية في طبيعة مواجهة تلك الحملات، فإن من أدنى حدود الوعي بين المثقفين والسياسيين العرب التنبيه إلى مخاطرها، وليس تحريف اتجاهات الرأي العام، أو غلق منافذه.

* سفير عراقي سابق [email protected]