واشنطن والرياض.. هل تدرك كل منهما مصالح الأخرى؟

TT

هل تمر العلاقات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية بمنعطف حرج؟ هذا السؤال الذي طرحه البعض عقب تسريب جماعة ضغط في واشنطن لتقرير أشير فيه الى المملكة باعتبارها «عدواً»، أطلق العنان لتعليقات عدة صدرت من الجانبين.

واذا ما أردنا اجمالها فيمكن الاشارة الى أنها تنقسم الى نوعين: الأول يمكن وصفه بأنه صادر عن «أشباه النعامة». وهذه أطلقها البعض، منطلقين من حسن نية على الأرجح، وقد سعوا لاعتبار ما جاء في التقرير ثمرة لمخيلة باحث مرتبك. وأنصار طرح «النعامة» هذا يصرون على أنه لا شيء يشوب العلاقات السعودية ـ الأميركية وان الأحداث غير المألوفة التي شهدتها الأشهر الأخيرة لم تؤثر على ما يصفونها بأنها «علاقات خصوصية».

وكالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال، من أجل ألا تشاهد ما لا يسرها، يعد أولئك الذين يدافعون عن مثل هذا الرأي ضحايا لأوهامهم.

أما النوع الثاني من التعليقات فقد صدر عمن يمكن أن يصفهم المرء بأعضاء نادي «الديوك»، اذا أردنا الاستعانة مجازا بتشبيه الطيور. فأعضاء نادي «الديوك» الأميركيين صرحوا بأن المملكة العربية السعودية تعد بالفعل عدوا لا بد من «التعامل» معه بأسرع وقت ممكن. وفي المقابل، اعتبر أعضاء هذا النادي من العرب ان الولايات المتحدة لم تكن في يوم ما صديقا مخلصا، ويجب، وقد كشفت للتو عن قناعها الحقيقي، أن تحظى بمعاملة خاصة من قبل السعودية.

وبينما لم يقتنع أنصار نادي «النعامة» بما جاء في تقرير «لوران ماورويك» المثير للجدل، اختار أنصار «الديوك» أن يدققوا فيه بشكل ممل. لكن المؤكد ان العلاقات السعودية ـ الأميركية باتت الآن تحظى باهتمام شديد من البلدين. وفي كل من الطرفين لم يعد هناك مجال لافتراض ان واشنطن والرياض قد تواصلان تلقائيا اتخاذ نفس الموقف بشأن جميع القضايا تقريبا، حيث كانت علاقات البلدين قد شهدت تغيرا في طبيعتها للمرة الأولى، عندما امتنعت الرياض عن القيام بدور نشط في الحملة ضد طالبان، وفي ما بعد امتنع السعوديون عن تأييد الولايات المتحدة في سعيها للاطاحة بالنظام العراقي بالقوة.

وفي الجانب الأميركي شهدنا حملة من الإساءة للمملكة العربية السعودية، تمثلت في مئات المقالات الصحافية، وخطابات الكونغرس والبرامج التلفزيونية. وأشارت استطلاعات الرأي الى أن غالبية الأميركيين يعتبرون المملكة ضمن مجموعة أخرى من «الدول المكروهة».

وقد مثل قرار رودولف جولياني، عمدة نيويورك السابق، برفض قبول صك بمبلغ عشرة ملايين دولار قدمه الأمير الوليد بن طلال تبرعا لصندوق ضحايا مأساة الحادي عشر من سبتمبر، واقعة بارزة ألحقت ضررا بمكانة العرب، المستعدين دائما للتبرع لصالح قضايا تستحق، وأحيانا ليست بذات الأحقية، حتى ان آلاف الجمعيات الخيرية والجامعات وجماعات الضغط والمواطنين في الولايات المتحدة ممن استمتعوا لعقود من الزمن بالكرم السعودي باتوا اليوم يسعون لاخفاء هوية المحسنين اليهم. كما ان الولايات المتحدة وفي خطوة غير مألوفة مارست نفوذها لتأجيل انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية.

هذه التطورات ألا يجب أن تثير مخاوف البعض؟ كلا، ليس بالضرورة، فهناك دائما بعض الفائدة في ما يحدث. ويبدو ان الوقت قد حان لاجراء مراجعة جادة للعلاقات بين السعودية والولايات المتحدة، يشمل تطورها منذ أواسط ستينات القرن الماضي. فخلال تلك الفترة شعر الجانبان بالحاجة لبعضهما البعض من أجل التصدي لتهديدات بدأت بالتيار الناصري وحتى الخميني مرورا بالشيوعية. ومنذ عام 1980 كانت مصلحتهما مشتركة في التصدي لتوسع النفوذ السوفياتي في أفغانستان. وفي عام 1990 احتاجا لبعضهما البعض لإخراج صدام حسين من الكويت والعودة به لمعقله.

وقد ساهمت حقيقتان في اضفاء أهمية على المملكة العربية السعودية تفوق مساحتها الجغرافية: الأولى، ان المملكة تضم ما يقرب من 25% من احتياطيات النفط العالمي، الى درجة ان أكثر التوقعات تحفظا تشير الى أن النفط سيواصل الاحتفاظ بمكانته كمصدر رئيسي للطاقة لثلاثين عاماً مقبلة، الأمر الذي يعني ان احتياطيات السعودية قد تواصل الاحتفاظ بقيمتها الاستراتيجية لجيل آخر. أما الحقيقة الثانية فهي ان المملكة باعتبارها تضم أهم موقعين اسلاميين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، تحظى بمكانة فريدة في أوساط العالم الاسلامي.

نوعية العلاقة التي نمت خلال تلك السنوات كانت مرتكزة على الأهداف الجغرافية السياسية، واهتمت بدرجة أساسية بالقضايا العسكرية والمعلوماتية والأمنية. ولم تكن هناك حاجة لعلاقات على مستوى الشعبين. فقد استطاع الجانبان التعامل مع مصالحهما من خلال قنوات دبلوماسية وأمنية سرية، وخلف أبواب مغلقة. وقد تسنى ذلك لأن الأمر اتفق مع التقليد السعودي المتعلق بطريقة اتخاذ القرار خلف أبواب مغلقة. كما أن الأمر كان مناسبا للجانب الأميركي لأن معظم الأميركيين لم يكونوا مكترثين بمعرفة موقع السعودية. لكن تلك الحالة تغيرت، فعملية صناعة القرار السعودي باتت أقل سرية الآن مقارنة بما كانت عليه قبل ثلاثة عقود من الزمن. وتم توسيع قاعدة اتخاذ القرار، على الأقل الى مستوى المناقشات والمشاورات، وذلك بفضل تأسيس مجالس جديدة، وبفضل المساعي المخلصة، وان كانت ما تزال خجولة، لبعض وسائل الاعلام السعودية بشأن طرح مبادرات متعلقة بالحديث حول بعض الجوانب السياسية المتبعة. والأهم من ذلك، ان المرء يمكنه الآن الحديث عن الرأي العام السعودي الذي كان غائبا الى حد كبير خلال ستينات القرن الماضي، وهذا لأن الطبقة المتوسطة الجديدة باتت تتشكل في المملكة وهي ترغب في تعلم المزيد حول الحياة المعاصرة.

وهناك أيضا تغيير حاصل في أميركا. فصدمة الحادي عشر من سبتمبر الماضي لم تستوعب. ولا يمكن محو حقيقة ان خمسة عشر من التسعة عشر ارهابيا كانوا مواطنين سعوديين، من خلال حملات علاقات عامة. فالمطلوب هو حملة صادقة لشرح الأمور وليس فقط الاعتماد على اسلوب ماديسون أفنيو المنمق. وقد يتساءل البعض: هل بامكان السعودية والولايات المتحدة أن تصبحا صديقتين حميمتين؟ وهنا اذا ما أردنا الاجابة وفقا لتعريف الهزلي الأميركي جيمس ثوربر، فانها ستكون: كلا. فوفقا لثوربر يعد الصديق ذلك الشخص الذي يأتي اليك مفاجأة خلال نهاية الاسبوع وبصحبته عائلته من أجل الاستمتاع بوجبة من المشويات. فالفوارق العميقة التي تستند إلى اختلافات في التقاليد الثقافية وفي الحساسيات الدينية وفي قيم الأسرة تجعل من الصعوبة بمكان على السعودية أن تكون ذلك النوع من الصداقة التي تحتفظ بها الولايات المتحدة، على سبيل المثال، مع كندا أو بريطانيا.

فالأميركيون، على سبيل المثال، لا يدركون لماذا لا يسمح للنساء بقيادة العربات في المملكة العربية السعودية. وفي المقابل، يشعر السعوديون بالخوف من هيمنة قضايا الجنس والعنف على الثقافة الأميركية. وهناك أيضا فوارق كبيرة بين النظامين السياسيين في الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. فالنظام الأميركي يستند إلى انتخابات متواصلة على جميع المستويات، بينما النظام السعودي لا يقر الانتخابات.

كل هذا لا يعني ان الولايات المتحدة والسعودية لا يمكن أن تقيما علاقات حميمة بدون أن تكونا صديقتين. فكلاهما يحتاج الى فهم أفضل للآخر، ولما يرغب فيه الطرف الآخر.

السعوديون بحاجة الى فهم ان الفوز بتعاطف صفوة السلطة الأميركية، وأحيانا شراءه، لم يعد كافيا بعد اليوم، اذ انهم بحاجة الى اقامة صلة بالشعب الأميركي. وبالنسبة للأميركيين فان عليهم ادراك انه من الممكن لأمة أن تحتفظ بقيم اجتماعية وبنى سياسية مختلفة بدون أن يعتبروها معادية لهم. يحتاج الطرفان للتخلي عن اسطورة «علاقات خصوصية»، والتركيز بدلا عنها على علاقة عملية تستند إلى المصالح الثنائية. فمتى ما تعلق الأمر بالمصالح الوطنية، لا يوجد عيب أو ضرر من أن يتخذ كل منهما موقفا ما. واذا ما تأملنا كل ذلك فلن يصعب على المرء اعتبار ان الخمسة عشر ارهابيا ممن ارتكبوا حوادث الحادي عشر من سبتمبر كانوا الى حد كبير خصوما للشعب السعودي كما كانوا بالنسبة للشعب الأميركي.