رسالة من ديبلوماسي عريق

TT

تربطني صداقة بالسفير محمد منصور الرميح منذ حوالي اربعة عقود. وقد بدأ ابو منصور عمله الديبلوماسي قنصلا في البصرة ايام الملك عبد العزيز، وتنقل بعدها سفيرا في غير عاصمة، بينها بيروت والكويت. وتمر احيانا سنوات عدة من دون ان التقيه، في لندن او في الرياض، لكن الصداقة تعد بسنوات الحضور لا بسنوات الغياب. وقبل يومين كنت ادخل الى منزل صديق عندما رنّ الجوّال، الذي اصبح للناس مكتب ومنزل الليل والنهار. وكان على الخط من عمّان السفير الرميح.

قال ابو منصور، «نحن لا نكتب لكن لا بد ان ننقل مشاعرنا الى الذين يكتبون لكي ينقلوها بدورهم للآخرين. لقد امضيت في الديبلوماسية السعودية ردحاً من العمر. وعرفتها من الداخل. وعملت بموجب نظامها وفروضها. ولم يتغير شيء من هذه المبادئ والأنظمة منذ ايام الملك عبد العزيز: الصداقة والتعاون والتسامح. لقد مددنا يد التبادل حيث امكن. ويد العون حيث وجب. ويد المساعدة حيث استطعنا. وسعينا دائما الى الوفاق والى مشاركة الآخرين ولم نرد مرة على الاساءات والظلم. فماذا نحصد اليوم؟ اننا نقابل بمثل هذه الافتراءات السيئة النية في الصحافة الاميركية. ونقابل بالتشكيك في بعض الاعلام العربي. والذين كنا نبذل كل ما في وسعنا لكي نصلح بينهم يبادلوننا اليوم بمثل هذا النكران. ولكنني اؤكد لك شيئا واحدا وهو اننا لن نتغير. سياسة قيادتنا لا تقوم على ردة الفعل. انها مدرسة عبد العزيز وقواعدها لا تتغير ولا اخلاقها تتغير».

كان السفير الرميح يتحدث في مرارة وألم كمن يريد ان يشكو من جرح شخصي. ولكنني قلت له ان الدول الأخرى لا تقيم مدارسها الديبلوماسية والسياسية على المبادئ والمشاعر والفروسية. بل حتى لم تعد تقيمها على المصالح الواضحة. فاذا كان هناك من مصالح حيوية بالنسبة الى الولايات المتحدة فان اهمها وادقها، في العلاقة مع السعودية. فالمملكة لم تكن شريكا اقتصاديا فقط وانما كانت شريكا سياسيا على المسرح الدولي طوال مرحلة الحرب الباردة. وكانت الدولة الرئيسية الوحيدة التي لم تقم علاقة مع الاتحاد السوفياتي، كما خاضت، بسبب موقعها الاسلامي، حملة اساسية في مواجهة الشيوعية. والتقت سياسات الرياض وواشنطن في منعطفات دولية كثيرة طوال تلك المراحل الصعبة والمعقدة، مهما اختلفت الأسباب. فقد كان السبب الأول والاخير لدى السعودية هو محاربة الالحاد والحفاظ على التراث في البلدان الاسلامية الواقعة ضمن الاتحاد السوفياتي وخارجه على السواء. وكان دور افغانستان الأهم ليس في المعركة العسكرية ولكن في ايصال الافكار والمطبوعات والمصاحف الى جيرانها في آسيا الوسطى.

لعبت الانطلاقة من افغانستان دورا مفصليا في اسقاط السوفيات. ولعبت السعودية دورا آخر في رد الشيوعية عن اندونيسيا، اكبر البلدان الاسلامية. والتقت في ذلك مع التخوف الاميركي من نوايا ومشاريع السوفيات. وبالتالي فان دورها خلال المرحلة الماضية لم يكن مجرد دور نفطي يحرك النول الصناعي الاميركي بالطاقة. بل كان ابعد واهم من ذلك بكثير. والآن يصف «الخبراء» الاميركيون هذه الدولة «بالعدو» الاكبر. ويطالبونها بتغيير المناهج التي اسقطت الشيوعية ذات يوم. ويقول السفير الرميح: «يكتب بعض الصحافة الاميركية وكأنه يريد منا ان نغير ديننا. نحن لم نطلب من احد ان يغير دينه ولا نظامه ولا رجاله. اننا منذ سبعة عقود نحاول ان نلعب دورنا في اقامة عالم عربي حر وعالم متوازن. لا اكثر ولا اقل. ومن ينكر هذه الحقيقة انما يجدف عليها لا علينا».