حصان طروادة في الشرق الأوسط

TT

منذ وقت مبكر صار لدى الولايات المتحدة اعتقاد بأن السيطرة على العالم تتمركز في هيمنتها الكاملة على مصادر الطاقة والبترول بصفة خاصة باعتباره القاسم المشترك لغالبية هذه المصادر، وشيئا فشيئا استطاعت بالفعل ان تحقق هيمنة ما ومازالت ـ على أية حال ـ في سبيلها الى تثبيت هيمنتها، سواء في بترول بحر قزوين المتصارع عليه، أو في بترول الشرق الاوسط الذي يحتفظ بأكبر نسبة في مخزون العالم من البترول.

والى جانب هذا أرادت الولايات المتحدة ان تكون أكبر مصدر للقمح في العالم، وقد جربت استخدام القمح للحصول على مكاسب سياسية، وكان الاتحاد السوفياتي أثناء قيامه واحدا من الدول الكبرى المستوردة للقمح الاميركي، وكذلك الأمر بالنسبة لمصر التي اعتمدت على هذا القمح بنسب بلغت أحيانا 70 في المائة من حاجتها والى اليوم، وعلى الرغم من المنافسات التي بدأت تظهر في القارة الأوروبية أو الاسترالية مازال للقمح الاميركي دور سياسي واقتصادي.

ويأتي بعد ذلك السلاح إذ جاهدت اميركا في أن تكون المصدر الأول للسلاح في العالم وان تستخدم هذه الميزة سياسيا في المناطق المشتعلة، أو القابلة للاشتعال على ظهر الكوكب، وبسقوط الاتحاد السوفياتي صارت هي الدولة الأكبر كمصدر للسلاح، وعن طريق هذه القدرات التكنولوجية والاقتصادية استطاعت أن تنفرد بلعب الدور الاساسي في كل نزاع ينشأ، وهي تكاد تكون الآن الداعمة الوحيدة لدولة صغيرة هي اسرائيل بالسلاح المتطور ونجحت في أن توصلها الى تفوق شامل على كل القوى العسكرية الموجودة في منطقة الشرق الاوسط بما في ذلك ايران وتركيا التي اوشكت السياسة الاميركية الاسرائيلية أن تسلخها من الشرق الاوسط بمعناه الواسع لتضعها في صف الدول الأوروبية تجاوبا مع طموحات سياسييها الراغبين في هذا الانسلاخ منذ كمال اتاتورك حتى الآن، ومصدر السلاح الاساسي في تركيا هو الولايات المتحدة وحليفتها اسرائيل. ومهما يكن من أمر استراتيجيات السياسة التركية في المنطقة، وبصفة خاصة دورها في دول آسيا الاسلامية التي تعوم على مخزون البترول المطموع فيه، فان تركيا يبدو انها موافقة على ان تندمج في الاستراتيجية الاميركية العالمية جنبا الى جنب مع الحليفة اسرائيل، والسلاح هنا يلعب الدور في تنفيذ المهام السياسية التي تطمح إليها الولايات المتحدة.

ولأن الدولة الاميركية هي أهم مصدر للسلاح في منطقة الشرق الاوسط، فهي تعرف بالضبط حجم القوى العسكرية الموزعة في المنطقة، ولاشك انها نجحت في ايقاع الهزيمة بالسياسة المصرية التي اتبعها جمال عبدالناصر بكسر احتكار السلاح والتعامل مباشرة مع الاتحاد السوفياتي كمصدر للسلاح، ومنذ حرب 1973 بين مصر واسرائيل والولايات المتحدة تمسك بموازين السلاح الذي يحدد كل قوة، بحيث اصبح من الصعب ان لم يكن من المستحيل الخروج من هذا الخنّاق الاميركي الذي يتحكم بشكل فعال في سياسات الدول في المنطقة، وبالنسبة لمصر فان الجزء الأكبر من المعونة الاميركية ينصرف الى تسويق السلاح الاميركي وفقا لشروطها وظروفها، وبحساب ان يظل عاجزا عن مواجهة ناجحة مع اسرائيل.

هذه الادوات الثلاث، البترول والقمح والسلاح، اهم مقومات الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة، وهي التي توفر القدرة الاميركية على التأثير في سياسات العالم، وفي مقدمة ذلك جميعا دول الاتحاد الاوروبي واليابان التي تستورد بترولها من اماكن عديدة من ابرزها منطقة الشرق الاوسط التي تقع تحت الهيمنة الاميركية، وكل السياسات التي نراها اليوم بدءا من الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي الى محاولات تغيير الانظمة العربية تستهدف اتمام السيطرة الكاملة على منابع البترول، وهو الأمر الذي يجعل الكثير من الدول الاوروبية واليابان تحت رحمة السياسة الاميركية.

ويبدو ان الولايات المتحدة لاتريد أن تترك شيئا للصدف أو للتفاعلات الداخلية في هذه المناطق الساخنة، فهي جربت التدخل في افغانستان وتنصيب حكومة موالية، وهي تريد اعادة التجربة في العراق، وعلى الرغم من غموض الاحتمالات السياسية في شرق آسيا، واضطراب المواقف في الساحة العراقية والعربية، بل والدولية، إلا ان الولايات المتحدة نجحت بالفعل في اسكات المعارضات المختلفة سواء من جانب الاتحاد الاوروبي أو الدول الآسيوية الكبرى، ومازالت تستغل ظروفا موضوعية لتنفيذ هذه السياسة، فهي تهاجم المناطق التي تقصدها في استراتيجيتها الكبرى تحت حجة مواجهة الإرهاب، مستفيدة من احداث 11 سبتمبر وتفسيرها الخاص لها على انها نتيجة لثقافة معينة هي الثقافة الاسلامية، وهي نغمة من الممكن ان تتقبلها ثقافة مازالت تعتقد بأنها مختلفة عن الثقافات الأخرى والشرقية منها بصفة خاصة، وانها الثقافة الوحيدة الصحيحة والمستقلة عن الآخرين، وان النوع الغربي سمة من سمات الجنس الأوروبي بدءا من اليونان الى توزع هذا الجنس على ظهر الكرة الارضية، والرجل البسيط أو المرأة البسيطة في أوروبا مؤمن بهذا التفكير وما يترتب عليه من تحيزات عنصرية، والشعور بالتميز والتفوق شيء مريح ومبهج لاي انسان ليس لديه الوقت ولا التحصيل العلمي الكافي لمناقشة مثل هذه المقولات، وبذلك تجد حرب الإرهاب مبرراتها الحضارية أيضا، فضلا عن المبررات الدينية، ليس داخل الولايات المتحدة فقط، بل الكثير من الدول الاوروبية وغير الاوروبية التي تصدق مثل هذا التفسير لصعود الأمم وتقدمها.

وليست أحداث 11 سبتمبر فقط هي التي اعطت الزخم العاطفي لعمليات الانتقام العسكرية الاميركية في افغانستان أو الاسرائيلية في فلسطين، بل سوء السمعة الذي روجته الدعايات العنصرية سواء في الميديا الاعلامية في الولايات المتحدة أو أوروبا ثم اسرائيل بالتبعية، والذي اصبح علامة دالة على الانظمة العربية باعتبارها نظما قمعية بوليسية وديكتاتورية فاسدة وموغلة في الشر، وهي اتهامات تجد أدلة صدقها بين وقت وآخر في غياب الديمقراطية في هذا البلد العربي أو ذاك، وفي الفوارق الاجتماعية الهائلة بين فئات أو طبقات تلك المجتمعات، بالاضافة الى التخلف العام في المجالات المختلفة، سواء في المجال العلمي أو التكنولوجي أو الثقافي.

الحق ان صورة المجتمعات العربية في الذهن الغربي، بل والدولي العام غير مشجعة على استثارة عواطف الرجل العادي أو المرأة العادية، وكما استغلت الولايات المتحدة في حربها ضد «الإرهاب» مشاعر الناس بعد احداث 11 سبتمبر، استغلت أيضا سوء السمعة والصورة السيئة للمجتمعات العربية في اجازة العالم لتدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية، بما في ذلك تغيير الانظمة سيئة السمعة هذه بأنظمة «ديمقراطية» حديثة ومتقدمة، وكما ترى فهي كلها حجج شكلية من طراز حق يراد به باطل، ليس غرضها بالتأكيد الدفاع عن الديمقراطية أو حقوق الانسان العربي، بل اعادة صياغة هذه الانظمة بما يجعلها غير قادرة أو حتى راغبة في الحفاظ على كرامة الوطن أو العمل على تقدمه وتطويره، وهذا النوع من التدخل مثير للدهشة ويعتبر خروجا صارخا على مسلمات كانت ثابتة في القانون والاعراف الدولية، ولكن هذا الخروج يجد مبرراته في الصورة السيئة المنتشرة في العالم عن الانظمة العربية وتجد نفس القبول الذي كانت تجده الحملات الاستعمارية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، حيث اكتسحت الجيوش كل البقاع تقريبا باسم تعميرها والعمل على تقدمها، وهو الأمر الذي لم يتحقق طوال القرنين أو الثلاثة الماضية، بل العكس تم استنزاف هذه المناطق ودفعها دفعا الى التأخر والفقر المدقع في الكثير من التجارب المريرة للظاهرة الاستعمارية.

اليوم تحاول الولايات المتحدة ان تحصل على موافقة من هذا النوع لكي تضرب العراق كما ضربت افغانستان من قبل، وعلى الرغم من المعارضات التي نجدها هنا أو هناك إلا ان المشهد الدولي الظاهر يدل على ان قوى عديدة ساكتة أو غير معترضة لان النظام في العراق له خصوم كثيرون من العراقيين تجمعهم وتحرضهم الولايات المتحدة، ومن الصعب ان تقنع الانسان العادي في أوروبا أو اميركا أو حتى آسيا وافريقيا بأن يكونوا عراقيين أكثر من العراقيين المعارضين، وتأتي معارضة التدخل الاميركي من حيث فضح الاهداف السياسية التي تهدف الى الهيمنة وتغيير مواقع الارتكاز الاميركية في الشرق الاوسط، والمخالفة للقانون الدولي المتعارف عليه، فالمعارضة ليست من أجل سلامة النظام العراقي، بل من أجل رفض الأسس التي تقوم عليها ذريعة التدخل، وهي كلها أسس قوية ولكنها ليست كافية لردع تلك السياسة التي تستغل ظروفا موضوعية لاغراض غير موضوعية.

والتدخل لاسقاط النظام العراقي، أصبح يتوسع أيضا للتدخل في الدول العربية، وعلى هذا قام الهجوم علي مصر والسعودية، وهو الأمر الذي يشير الى ان بعض مفكري سياسة الهيمنة الاميركية يريدون ان يصيبوا الدول المحورية أو الركائز في الوطن العربي، فلا يمكن ان تتحقق هيمنة اميركية من دون اضعاف الدول المركزية مثل مصر والسعودية، وكان العراق دائما من بين القوى العربية التي لها وزنها في تشكيل حركة النهوض العربية، وها هي الاخطاء السياسية البالغة السوء أدت الى خلق مبررات للتدخل اذا نجحت فان عزل العراق أو احتواءه سيكون ضربة قوية لمشروع النهضة، ومن هنا كان الهجوم على السعودية وعلى مصر استكمالا للمخطط الاميركي الاسرائيلي لاضعاف الاقطار المركزية في المنطقة لتحقيق سيطرة كاملة لا قبل لقوة محلية بمقاومتها.

والتدخل الاميركي لايسعى فقط لتغيير الانظمة ووضع نماذج من قرضاي أفغانستان في الدول المركزية العربية، بل يسعى أيضا للتخطيط للثقافة ويطالب بالتدخل في تعديل برامج التعليم وسياسات الميديا الاعلامية والابداعات الثقافية المختلفة بحجة ان التعليم والثقافة السائدة في المنطقة العربية مفرخة للإرهاب، أي بمعنى آخر عمل غسيل مخ للشعوب العربية حسب مفاهيم المصالح الاميركية والاسرائيلية.

نعم، نحن في حاجة الى اصلاحات كثيرة، وربما كان هذا هو القوي والناصع على تلك المخططات التي يبدو فيها البعد الصهيوني أكثر بروزا، وليست الثقافة والسياسة التعليمية ببعيدة هي أيضا عن ضرورة الاصلاح، وهنا تكمن قوة الانظمة القائمة إذ انها بعملية تحديث قوية تستطيع ان تخرج من المخنق الذي يريد خصومها، والحركة الصهيونية في مقدمتهم، أن يضعوها فيه، وان يصفوها بحجة تخلفها، ان الاصلاح هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة هذه التحديات البالغة الشر، ومن حسن الحظ ان كل الظروف الداخلية مواتية، والشارع العربي يساند سياسييه بحماسة ظاهرة ويقف الى جانبها الى اقصى ما تحتاجه من مساندة.

وعلى كل حال وعلى الجانب الآخر، فان موجة الهيمنة التي تكتسح العالم الآن، قابلة للانكسار الذي هو من طبيعة الأشياء، وقد يكون الصمود العربي مقدمات هذا الانكسار.