أهمية حياد الأمين العام للجامعة

TT

منذ أن تسلَّم عمرو موسى منصب الأمين العام للجامعة العربية وفي اجواء من الترحيب العربي الشامل بمقدمه، والرجل يحاول جاهداً إزالة التجاعيد السياسية التي تكاثرت على وجه الجامعة والتخفيف من الترهل الذي أصاب الجسد السياسي للأمة متمثلاً بجامعتها، وإختراق الحواجز المنيعة التي باتت، بفعل التقادُم، من المحرمات التي لا يجوز اختراقها. وبدا عمرو موسى وكما لو أنه طبيب التجميل السياسي، وأنه ما دام حظي بهذا الترحيب الذي جاءه من جانب القادة العرب الذين التقوا في القمة العربية الدورية الاولى في عمان يوم 27 مارس (اذار) 2001، فإن هؤلاء القادة لا بد سيدعمون مهمته ويحيطونه بالاهتمام بحيث لا تقتير بعد الآن كي لا يستمر الهاجس التقليدي بأن الجامعة على مشارف الإفلاس وأن رواتب الموظفين البالغ عددهم حوالي خمسمئة شخص مؤجلة الدفع أو ربما من الصعب تسديدها.

ولقد مرت فترات كان فيها الأمين العام يصرخ من شدة الجزع من ان تتحول الجامعة الى مجرد طلل سياسي، وأن ينتهي أمر أمينها العام الى أنه مثل متعهدي الحفلات الفنية أو منظمي المؤتمرات والندوات، وظيفته تأمين انعقاد مؤتمر ترى الدول الأعضاء ضرورة عقده.

وبمجرد أن تسلم عمرو موسى المنصب في 16 مايو (ايار) 2001 بدأ يرمم ما يمكن ترميمه، موحياً بأنه جاء ينتشل الجامعة من وهدتها وينقذها من الرتابة التي هي عليها والاسترخاء الذي هو سمة حركتها، وهو ما ترك بعض الأسى ومشاعر العتب في نفس الأمين العام السابق الدكتور عصمت عبد المجيد، مع أن الرجل سعى وبالذات خلال ولايته الثانية وفي نطاق ما تجيزه الظروف العربية السائدة في أواخر سنوات ولايته لاختراق «المحرمات»، ومن بينها زيارة العراق وجعل اجتماع الملوك والرؤساء لا يبدو في استمرار بأنه من المعجزات. وفي هذا الصدد نشير الى أن الدكتور عصمت عبد المجيد سبق عمرو موسى في زيارة العراق عندما توجَّه الى بغداد عام 1998 مكلَّفاً من الرئيس حسني مبارك الذي كان عامذاك رئيساً للقمة، واثمرت زيارته الإفراج عن 1500 سجين عربي من بينهم ثلاثة كويتيين. كذلك نشير الى السعي الهادئ للدكتور عصمت عبد المجيد من أجل أن يصبح انعقاد القمة العربية دورياً فلا تعود هنالك حاجة الى القمم الطارئة ما دامت القمة ستنعقد مرة كل سنة في واحد من الدول العربية وفق الترتيب الأبجدي الذي حدث بالفعل. والقمة العربية الدورية الأولى التي استقبل فيها القادة العرب تعيين عمرو موسى اميناً عاماً جديداً للجامعة هي إحدى ثمار ذلك السعي للأمين العام السابق.

لكن الأسلوب الهادئ للدكتور عصمت عبد المجيد والأسلوب الديناميكي لعمرو موسى جعل هذا الأخير ينطبق عليه ومع بعض التعديل قول الشاعر بأنه أتى ما لم يستطعه من كان قبله. وهذا الشعور ناشئ عن الزيارة التي قام بها عمرو موسى الى بغداد وعاد منها مغضوباً عليه من بعض وسائل الاعلام الكويتية وبعض المتشددين في البرلمان الكويتي الذين ما زالوا غير مستعدين لفتح الصفحة الجديدة مع العراق. وما دواعي هذا الغضب إلاَّ لأن الرجل اراد أن يكون على درجة من الحياد ازاء «أم الأزمات» العربية التي هي بين العراق والكويت. كما أن هذا الشعور ناشئ عن التحرك السريع الايقاع لعمرو موسى حيث أنه جاهز دائماً للتعاطي مع أي أزمة عربية تنشب فجأة أو مع أي أزمة تستفحل وإلى درجة تصبح بمثابة الكابوس على الجميع في حال عدم محاصرتها من خلال التحرك السريع على نحو ما يفعل عمرو موسى وما كان لا يفعله بالدينامية نفسها الدكتور عصمت عبد المجيد. وفي اعتقادنا أن عامل السن هو من جملة عوامل جعلت عمرو موسى ماراثونياً، بينما جعلت عصمت عبد المجيد يفضل رياضة المشي المتهمل على نحو ما يفعل المتمهلون في مثل سنه في نادي الجزيرة في القاهرة او في سائر النوادي التي تتميز بها العاصمة المصرية.

وحتى الآن لم تتحقق لعمرو موسى تمنياته واحلامه في ما يخص الجامعة العربية. ومع أنه دائم الابتكار ويطرح في استمرار أفكاراً يستهدف منها التطوير، إلاَّ أن الرجل يصطدم بالواقع المأساوي للجامعة وبالمعادلات التي تثير التحفظات لدى بعض الدول الاعضاء. والمال هو قمة هذا الواقع. فهنالك في الأصل متأخرات تفوق المائة مليون دولار. ويسعى عمرو موسى الى أن يكون تسديد الحصص مُلزِماً بمثل ما بات عليه انعقاد القمة الدورية مُلزِماً وفي الموعد المحدد، وبذلك لا يستمر هذا العجز المالي. ولكن الذي يحدث هو أن المقتدرين يدفعون حصصهم بتثاقل وهنالك غير المقتدرين الذين يسارعون الى الاشتراك في اجتماعات الجامعة إلاَّ أنهم لا يدفعون ما يترتب عليهم من التزامات مالية. ولقد اعتبر عمرو موسى انه بالعلاقة الطيبة التي بينه وبين وزراء الخارجية العرب، الذي ربطته بهم ايام كان وزيراً للخارجية المصرية ومعظمهم ما زال في منصبه، يستطيع أن يستعجل التسديد. لكن هذا الأمر كان سيفيد أكثر لو أن العلاقة الجيدة هي مع وزراء المالية ومديري البنوك المركزية.. او مع رؤساء الحكومات على نحو ما هو عليه هذا التميز في العلاقة لكل من الأمين العام السَلَف عصمت عبد المجيد، والأمين العام الخلف عمرو موسى مع رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري دون غيره من رؤساء الحكومات العرب. وفي استطاعة هؤلاء ان يفعلوا الكثير في هذا الشأن للأمين العام أكثر مما يفعله وزراء الخارجية.

ومع انه لا أمل على المدى القريب يُرتجى في ما يخص تصحيح الوضع المالي للجامعة العربية، وأن تقليص النفقات باغلاق بعض مكاتب الجامعة في عدد من الدول العربية لم يحل المشكلة المتفاقمة، فإن الامين العام عمرو موسى يواصل طرح افكار التطوير عسى ولعل يلفت ذلك انتباه القادة العرب فيدعمون سعي الرجل الذي قد ينتهي به الأمر اميناً عاماً على مدى ولايتين تستغرق كل منهما خمس سنوات. ومن أحدث ما يقال في هذا الإطار هو أنه يجري التشاور في رحاب الجامعة من اجل انشاء «مفوضية العرب في المهجر» وبالذات لحوالي ثلاثين مليوناً وجدوا انفسهم في ضوء العملية الترويعية في كل من نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر (ايلول) الماضي، يحتاجون إلى الحماية وإلى المرجعية العربية التي تتابع ظروفهم وتنظر في مشاكل تصيبهم من نوع المشكلة الناشئة عن تداعيات العملية الترويعية المشار اليها. والفكرة ايجابية في اي حال وإن كانت التحفظات التي تحيط بها كثيرة. لكن مثل هذه المفوضية تعني اضافة عبء جديد إلى الاعباء، واضافة رقم جديد إلى أرقام العجز المالي، فضلاً عن ان مثل هذه الفكرة تعطي انطباعاً عن الأمانة العامة للجامعة بأنها تُشغل نفسها بما لا يعنيها، ذلك ان مسؤولية مثل هذا الكم الهائل من عرب المهاجر تقع على كل دولة لديها جماعات مهاجرة الى دول العالم وبالذات الدول الاوروبية والولايات المتحدة وكندا وأوستراليا وافريقيا.

ونعود الى مسألة العجز عن التطوير التي لا تبدو سهلة لنبدي وجهة نظر خلاصتها ان يكون للجامعة العربية مكتب داخل بعض السفارات العربية لدى الدول الكبرى وبذلك لا يعود هنالك موجب لأن تكون هنالك مكاتب مستقلة يعمل فيها عدد من الموظفين، وبهذا التمثيل لا تعود الجامعة العربية مضطرة للإكثار من فتح المكاتب ولا للإكثار من اغلاق مكاتب بداعي التقشف وترشيد النفقات. ونقول ذلك على أساس ان اي تعديل في مواقف هذه الدولة أو تلك لا يحققه مكتب الجامعة العربية وإنما الذي يحققه هو وزن مصالح هذه الدول مع الدول العربية. وفي هذه الحال فإن العنصر الفاعل يصبح سفير تلك الدولة العربية مع حكومة الدولة الاجنبية التي يمثل بلده فيها.

وثمة نقطة جديرة بالتسجيل وهي أن الشعور السائد لدى معظم الدول العربية بأن جامعتهم ليست بالفعالية المطلوبة هو الذي يجعل هذه الدول تبدي الكثير من التباطؤ في تسديد الالتزامات. وعندما يتأمل المرء في الاحوال السائدة في العالم العربي ومدى التعقيدات التي تحيط بالعلاقات بين البعض، يستغرب كيف ان الامين العام لا يقتحم الميدان مقترحاً وموفِّقاً ومحاولاً تحقيق نوع من التآلف بين القلوب. والسبب في ذلك أن الأمين العام للجامعة العربية عن قصد أو عن غير قصد أو نتيجة ضغوط يتعرض لها أو نتيجة مؤثرات، لا يتمسك كثيراً بمسألة الحياد، بمعنى انه يجد نفسه منحازاً على نحو انحياز الامين العام للامم المتحدة كوفي انان، مع اختلاف دواعي الانحياز واطرافه. وما نقصده من هذا التشبيه هو أن حياد الامين العام للجامعة العربية حيال الازمات والقضايا العالقة بين الدول الاعضاء هو الذي يضفي الكثير من الحيوية على هذه المنظمة التي أُنشئت في الاصل بغرض جمع العرب على كلمة سواء وليس الانشغال بأفكار التطوير التي لا تُكتب لها فرصة التنفيذ لأن المال غير متوفر... ولأن الحماسة والنية الطيبة وحدهما لا تكفيان.