صمت فلسطيني رسمي مريب عن «ضياع» خيرة الشباب

TT

لو لم يكونوا قشطة الشعب الفلسطيني لما بذلت اسرائيل كل هذه الجهود لاعتقالهم، ومعاندة الشرائع السماوية والقوانين الدولية في الاحتفاظ بهم دون محاكمات خلف القضبان. بشكل او باخر يمكن ان نفهم ذلك التصرف من العدو الذي تتبحر قواميسنا في مفردات وصفه. لكن الصعب على الفهم حتى الآن، هو ترك الجواسيس والعملاء يبرطعون في البلاد ويواصلون تقديم المعلومات الميدانية لجيش العدو ليواصل الاعتقالات والاغتيالات، والاصعب من ذلك، هو الاهمال الفلسطيني الرسمي والمنظماتي للمعتقلين وقضيتهم واهلهم.

ان السلطة الوطنية الفلسطينية، وتحديداً، وزارة الشؤون الاجتماعية ومؤسسات العناية بالاسرى، لا يعرفون العدد الدقيق للاسرى، او اماكن وجودهم، او تفاصيل ملفاتهم من حيث التهم ومن قدمها ومن سيشهد عليهم في أي محاكمات. احياناً يقال سبعة او ثمانية او تسعة آلاف اسير فلسطيني في معتقلات اسرائيل. الف شاب او اكثر من خيرة ما انجبت نساء فلسطين لا وزن لهم. ان قيمة الانسان الفلسطيني عند سلطته ظهرت قبل ذلك في جنين، حين قيل ان الشهداء الذين ذبحوا هم خمسمائة، وقالت اسرائيل انهم حوالي تسعين (راجع تصريحات المتحدثين الرسميين بعد السماح للاعلام بدخول المخيم). وكشف لنا تقرير الامم المتحدة اياه انهم اثنان وخمسون، أي ان الجيش الاسرائيلي احصى جثثا غير فلسطينية وغير اسرائيلية، انهم الذين نزلوا من المريخ. ما رأي وزارة الشؤون المدنية اذاً؟ هل من الصعب، بعد شهر او ثلاثة، تحديد عدد المواطنين المفقودين من المخيم؟ كيف يعقل ان نسمع حتى الآن امهات يؤكدن انهن لا يعرفن مصير فلذات اكبادهن ان كانوا ماتوا او اسروا؟

تمنع اسرائيل العدوة زيارات الاهل للاسرى، لكن اكثر من نصف جواهر فلسطين في السجون لا يملكون تمثيلا من محامين، وهذا لا علاقة للعدو الصهيوني به. في الانتفاضة الاولى لم يكن هناك اسير بدون محام يزوره ويلاحق قضيته مع المحاكم العسكرية الاسرائيلية، وكان اجر المحامين على الله والمجتمع. اليوم لا يوجد أي نشاط للنقابة التي اصبحت رسمية، ولا يتحرك معظم المحامين قبل قبض الاجرة والتكاليف سلفاً، لذلك فغالبية الاسرى تحولوا الى ايتام قضائياً.

في اواسط الشهر الجاري تمرد آلاف العمال في قطاع غزة على نقابتهم الرسمية المدعومة من السلطة، اقاموا الخيام ونظموا انفسهم عفوياً، واستعدوا لتحطيم مدينة غزة تحت شعارات من طراز، «اولادنا يتضورون جوعاً واولادهم يعانون من التخمة». وعندما وصل الامر اخيراً للرئيس عرفات ارسل لهم الوعود والتطمينات ان التعليم سيكون مجاناً، وان التأمينات الاجتماعية ستوفر لهم حتى بدون دفع اشتراكات، ووعود مشابهة في مجال الصحة وغير ذلك، تلبية لكل مطالبهم حتى لا يحطموا بيوت ومراكز الشبعانين. فهل المطلوب من عائلات الاسرى ان يزحفوا ويحطموا، ام ان السلطة، بعد ان اتضح تخريبها لكل القضايا، يمكنها ان تغير الاداء المادي والمعنوي تجاه الاسرى بسرعة صاروخية قبل ان تلسعها النيران؟

ما الذي يمكن للسلطة ان تفعله ؟ هناك عشرات الخطوات المادية والمعنوية ممكنة التنفيذ فعلا:

- اسهل واول هذه الخطوات، هو اشعار اسرائيل اننا قد نتوصل معها الى أي اتفاق جزئي او كلي، ولكننا لن ننفذ ما يتم التوصل اليه الا بعد اطلاق سراح كل الاسرى السياسيين، المحكومين وغير المحكومين، والا فأذهبوا للجحيم.

- أي انتخابات فلسطينية، قد تحدث قبل تطبيق أي اتفاق اخر، يجب ان يشارك فيها الاسرى كناخبين ومرشحين، فأولئك هم خيرة المجتمع، ولا معنى لديمقراطية بدونهم.

- اعلان رئاسي فلسطيني باختيار احد الاسرى لدخول الانتخابات كنائب للرئيس او كرئيس للوزراء، وليكن ذلك الاسير واحدا مثل مروان البرغوثي المتهم بقيادة وتنظيم عمليات انتحارية مقاومة، وترشيح اقدم السجناء لمنصب فخري مضمون، وتخصيص منصب وزاري لاحدى الفتيات المعتقلات الان وليس مناضلات زمان، وفتح المجال لجميع الاسرى في الترشيح والانتخاب، فربما فهمت اسرائيل مفهومنا للديمقراطية.

- صرف اموال فوراً لعائلات الاسرى حسب عددهم ووضعهم وتخصيص رواتب شهرية حتى لو جاءت من رواتب رجال الحكومة انفسهم، اذا لم يتبرع بها اشاوس العرب في اجراءات تبن مباشر لتلك العائلات، بدل اطلاق الوعود الكاذبة.

- اصدار اوامر ملزمة لكل المؤسسات العامة والخاصة التي يوجد اسرى من موظفيها ان تواصل الحفاظ على كل حقوقهم حتى يسوى الامر مع مؤسسات اخرى، على ان تضمن اماكنهم في العمل. وهذا اجراء فرضته الانتفاضة الاولى بدون أي دور لمنظمة التحرير انذاك، بينما تتراجع مؤسسات السلطة عنه الآن.

- ضمان فوري لتوفير محام لكل اسير، يتواصل مع الجهات المختصة الفلسطينية فيما قد يساعد في التخفيف عن الاسير، أي ضمن امور اخرى قطع دابر الجواسيس الذين يوفرون المعلومات لاسرائيل وابادتهم الفورية من المجتمع عبر قانون شرعي يعطيهم فرصة ايام للتوبة والاعتراف والحماية، والا فترك مصيرهم للقضاء او للناس اذا كان اتفاق اوسلو يكتّف السلطة. ليس من المعقول ان تستمر المقاومة بانواعها المدنية والعسكرية بينما الناس تخاف من اذان الحيطان في كل مكان، انهم يدمرون المجتمع ومستقبله.

- مراجعة للوزارات والمؤسسات المعنية بالاسرى ومحاكمة كل مدير ومسؤول يثبت تقصيره في عمله من جمع لمعلومات ومتابعة وتنوير واعلام، واي مهام اخرى مذكورة في الاهداف والقوانين الداخلية لتلك المؤسسة. وتوفير معلومات مفصلة ومتجددة شخصية وعائلية وقضائية عن كل اسير، وزيارة الاسر في بيوتها للاطلاع على حاجتها، بدل جرجرتهم في طوابير الاهانة.

- اقامة مؤسسة فلسطينية للتعريف بالسجون الاسرائيلية، قوامها اهل قانون وانصار من الغرب دون اشتراك أي شخص من رجالات السلطة، مهامها جمع المعلومات الطازجة من الاسرى المحررين والمحامين حول تفاصيل ظروف كل سجن، من هم الذين في داخله وما هو نظامه والممارسات فيه واسماء السجانين وغير ذلك من المعلومات التي ترسل لاجهزة الاعلام والقضاء والمنظمات العالمية.

هذه البنود اعلاه لا يجب النظر اليها كخيارات، بل انها مجتمعة تمثل الخيار البائس الادنى الممكن عمله في الظروف التعسة الحالية. لم يعد من الممكن او المهضوم على الاطلاق القاء المسؤولية كلها على العدو. كيف يكون من الجائز هذا السكوت عما يحدث للمعتقلين في معسكر النقب الصحراوي دون ان يصلهم محام او يتلقون زيارة من الصليب الاحمر او وفد من الجمعيات الانسانية؟ أي سلطة ومؤسسات تلك التي تطنش عن اغتصاب الجنود للاشبال، واهانة فتياتنا ليل نهار ؟ نفهم انهم اعداء ملاعين وشواذ، ولكن ما هو جنس السلطة؟ الاسرى ليسوا خصوما او منافسين على اعمدة الكراسي والمكاتب، انهم خيرة ابناء الشعب الذي يُراد حكمه. كيف يجلس قادة الفصائل الفلسطينية والسلطة منذ اسابيع في غزة يتباطحون حول قضايا توزيع المناصب وكعكة القيادة الموحدة، ثم يتسابقون كل ليلة الى التصريحات الفضائية، ولا يتطرقون في اجتماعاتهم وخطبهم وبياناتهم الى أي برنامج مادي او معنوي آني او مستقبلي حول الاسرى؟