مراجعات إعلامية

TT

مع أن ردود الأفعال القوية والمتباينة التي أثارها تقرير لصحيفة «فاينانشال تايمز» حول سحب السعوديين مبالغ تتراوح بين مائة الى مائتي مليار دولار من السوق الأمريكية تخوفا من تداعيات قضية التعويضات التي رفعتها عائلات ضحايا الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) ركزت على التشكيك في حجم الأرقام، الا ان للمسألة جانبا اعلاميا يشير الى المتغيرات التي تمر بها هذه الصناعة بتأثير من التطور الكمي والكيفي للمعلوماتية وفضاء الانترنت الذي يذخر بما لا حصر له من تدفق اعلامي أصاب العديد من التقاليد المهنية القديمة مثيرا العديد من علامات الاستفهام.

وأذكر قبل بضع سنوات تفرد ذات «الفاينانشال تايمز» بخبر حول كيفية تمويل صفقة لتجديد الأسطول الجوي للخطوط العربية السعودية بنحو ستين طائرة، اذ قالت ان مجموعة من البنوك الاسلامية ستدخل في مشروع مشترك للتمويل بتشجيع من مجلس أدارة الخطوط، وكنت اتصلت بأحد أعضاء مجلس الادارة، الذي أوضح انه لولا موقعه هذا الذي يتيح له معرفة ما يجري حقيقة لصدق رواية الصحيفة. وبالفعل لم تكن لهذه الصيغة أي علاقة بما تم عليه الاتفاق لاحقا لتمويل صفقة شراء الأسطول.

ما كان لخبر سحب الأموال أن يثير ما أثاره من ردود أفعال لولا نشره في الصحيفة التي تتمتع بمصداقية في دنيا المال والأعمال، وهي مصداقية تم بناؤها عبر عقود من الزمن. وليس الهدف من هذا الحديث الاشارة الى تدني هذه المصداقية وانما استكشاف عوامل التغيير في المعايير التي بدأت تلعب دورها في العملية الاعلامية ويمكن أن تؤدي الى تكرار مثل هذه الأخطاء.

وأول هذه المتغيرات تضاؤل امكانيات تحقيق سبق صحافي بالمفهوم التقليدي. فمثلا كان على رأس أهتمامات الصحافيين الغربيين العاملين في موسكو تتبع أعداد عربات كبار المسؤولين السوفيات ليطيروا خبرا عن اعفاء هذا المسؤول أو ذاك اذا تغيبت عربته عن الوقوف أمام مبنى يضم اجتماعا مهما مثلما حدث مع خبر اعفاء نيكيتا خروتشوف. وبقدر ما تبدو هذه الوقائع حاليا مثل حفريات أثرية عن زمن سحيق بقدر ما تشير الى الرحلة التي قطعتها الصناعة الأعلامية ودوران ماكينتها على مدار الساعة وفي كل بقعة مكانية متتبعة تفاصيل وجزئيات كل خبر مهما صغر.

ولهذا لم يعد الانسان مطالبا بان ينتظر الى صبيحة اليوم التالي «ليطلع» على الأخبار من صحيفته المفضلة، أو انتظار نشرة الأخبار الاذاعية أو التلفزيونية المقبلة ليتابع ما يجري.

فالمتلقي سواء أن كان قارئا أو مستمعا أو مشاهدا، أصبح مشاركا فعليا في الحدث مع النقل الحي للأحداث عند وقوعها، الأمر الذي أثر الى حد بعيد على الدور الصحافي التقليدي ان تصبح الوسيلة الاعلامية بديلا لعين وأذن المتلقي لوضعه في الأجواء. فالمتلقي يشاهد الآن الحدث عيانا بيانا وفي ذات الوقت مثل الصحافي.

هذه الضغوط المتواصلة لاطعام الالة الاعلامية الضخمة التي تعمل طوال اليوم فرضت على الكثير من وسائل الاعلام التحلل قليلا قليلا من بعض الضوابط الاعلامية الصارمة مثل اسناد الخبر الى مصادر موثوقة، أو التأكد من مصدرين مختلفين حال تعذر الوصول الى مصدر يمكن الاعتماد عليه واسناد المعلومة اليه، ولهذا بدأت تنداح قليلا قليلا الحواجز بين الصحافة الصفوية ذات المصداقية وتلك الشعبية أو ما يطلق عليها صحافة التابلويد.

وخير مثال هو النظر الى كيفية معالجة الصحف لفضيحة الرئيس السابق بيل كلينتون وعلاقته بالمتدربة مونيكا لوينسكي ومقارنتها بكيفية المعالجة لفضيحة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في قضية ووترجيت قبل ذلك بنحو عشرين عاما. مجلة «نيوزويك» كانت أول من علم ان المحقق الخاص كينيث ستار رمى شباكة حول لوينسكي، وجمعت مادة كافية كان يمكن أن توفر أساسا طيبا لنشر الموضوع، لكن بما انه لم يتسن الحديث مع مونيكا نفسها أو أحد من مكتب ستار وبسبب ظروف الطبع، فقد تقرر تأجيل النشر لمدة أسبوع واستكمال التحقيق. في هذه الأثناء تسربت المعلومات الى أحد كتاب أعمدة الاشاعات على الانترنت، الذي نشر الموضوع ليتفجر الموضوع ـ القنبلة الذي أصبح وليمة متاحة لكل وسيلة اعلامية أن تتناوله من أي جانب، وكما لاحظ أحد الصحافيين المخضرمين ان التركيز أصبح على:

What is New Not What is News

أي ان التركيز انتقل لاضافة أي شيء جديد من أي مصدر كان، بغض النظر عن قيمته الخبرية التي تحددها الضوابط المهنية. وبما أن الصحف يمكنها نقل أي شيء استنادا الى مصادر أخرى، على أساس أن ناقل الكفر ليس بكافر، فقد انفتح المجال واسعا للنقل من مختلف المواقع على الانترنت دون التثبت من حقيقة ما ينشر فعلا، فالاهتمام باضافة شىء جديد الى التقرير مع الخلفيات الجاهزة، وأصبحت العملية كلها وكأنها اعادة انتاج وتدوير لتقارير مبثوثة من قبل. ولضخامة حجم ما ينشر على مختلف الأصعدة أصبح من الصعب تتبع كل ما يقال وينشر. ولست أدري اذا كانت وزارات الاعلام لا تزال تقوم ببعض المهام القديمة مثل تجميع قصاصات الصحف لاطلاع المسؤولين عليها.

وبسبب هذا الفيضان، فان التركيز أصبح ينتقل تدريجيا الى كيفية غربلة ما ينشر لمعرفة ما يستحق القراءة فعلا، وهي مسؤولية قديمة ازدادت عبئا بسبب هذا التدفق من المواد الاعلامية الذي لا ينتهي، فحتى الوسائل الاعلامية الرصينة لا يستطيع المرء أن يأخذ تقاريرها على أنها أمر مسلم به.

لكن من الناحية الأخرى فقد أتاحت هذه الثورة المعلوماتية للدول النامية والمجموعات الفقيرة والمهمشة، أن تجد لها موطئ قدم على الساحة الاعلامية من خلال المواقع التي يمكن تأسيسها على شبكة الانترنت لبث ما تريد من أخبار وتحليلات وفي جوانب متعددة تتجاوز الاثارة السياسية البحتة. فقد كانت شكوى العالم النامي من هيمنة الدول المتقدمة على التدفق الاعلامي عبر سيطرة وكالات الأنباء الرئيسية على هذا الميدان، وأدت دعوة لليونسكو لفتح الباب أمام أخبار العالم الثالث الى شن حملة شعواء على المنظمة الدولية كادت أن تقضي عليها.

ومع ان الصورة تغيرت قليلا بسبب التطور التقني وثورة المعلوماتية التي أتاحت للدول النامية فرصة حضور اعلامي، وهذه احد إنجازات وايجابيات موجة العولمة، لكن يبقى عدم العدالة في توزيع الفرص السمة الأساسية سواء في ميدان التدفق الاعلامي أو التقدم الاقتصادي، وهو ما يعكس ميزان القوى في النهاية، وما لا تستطيع العولمة أن تلغيه ان لم تزده.