.. حتى لا تقع بغداد بما وقعت به عام 1990!!

TT

«عدو عاقل خير من صديق جاهل»، فمعظم الذين ينتدبون انفسهم، على صعيد الافراد وعلى صعيد الدول، للدفاع عن القيادة العراقية تحت لافتة الدفاع عن العراق يقومون بما قام به ذلك الدبُّ الذي أراد أن يطرد الذبابة عن أنف صاحبه فلم تسعفه فطنته الا بأن يحمل صخرة كبيرة ويهوي بها، بكل عزمه وقوته، على رأس هذا الصاحب فسحقه سحقاً وأماته شرَّ ميتة.

بعد مغامرة غزو الكويت، غير الموفقة، استنجد المدافعون عن الموقف العراقي والسياسة العراقية بالخرافات والمبالغات وبعضهم تجرأ فاخترع أحاديث نبوية لاثبات أن العناية الإلهية هي التي بعثت الرئيس العراقي صدام حسين لانقاذ الأمة، وكانت النتيجة أن هؤلاء جميعاً وضعوا القيادة العراقية فوق شجرة التشدد المرتفعة التي لم تستطع النزول من فوقها «بالتي هي أحسن» فحصل ما حصل وكانت تلك الحرب المدمرة فكان ذلك الحصار الظالم، وستكون الحرب الجديدة التي تشير كل التقديرات انها قادمة لا محالة.

كان المدافعون يعتقدون أن تضخيم قوة العراق العسكرية سيخيف الحلفاء وسيمنعهم من مهاجمته وضربه حتى داخل الأراضي الكويتية، والحقيقة أن الولايات المتحدة، كما هي الآن، كانت مع هذا التضخيم ومع الترويج للأسلحة والقدرات العراقية العسكرية «الهائلة»!! والهدف معروف بالطبع فحشد تأييد الرأي العام في الولايات المتحدة والغرب وفي الدول العربية والإسلامية أيضاً للحرب، التي كان يجري الاعداد لها، يقتضي التوسع في هذه المبالغات والمزيد من التوسع في هذه المبالغات.

ما أشبه اليوم بالأمس فالذين كانوا قد هددوا وتوعدوا في عام 1990 بأن الأرض العربية ستلتهب تحت أقدام «الإمبرياليين الغزاة» وأن العرب من المحيط إلى الخليج يهبون هبة رجل واحد وسيتحولون إلى الغام متفجرة ضد المصالح الأميركية مع أول غارة على بغداد، ها هم يقولون الشيء نفسه ويزيدون عليه جديداً بأن حرب الشوارع بانتظار الجنود الأميركيين «الجبناء» وأن وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم بن ثامر آل ثاني سيقلب المعادلة في اللحظة المناسبة وأن فلاديمير بوتين لديه مفاجأة ستكون الحاسمة وأن الحياد الإيراني الذي جرى الإعلان عنه أخيراً كان من قبيل المناورة والتكتيك السياسي وهدفه خدعة الأعداء، لأن الحرب خدعة، وأن الإيرانيين سيقفزون إلى الخنادق دفاعاً عن نظام لا يستطيعون المراهنة على بديله.

مبالغات في مبالغات، فالأميركيون منقسمون على أنفسهم والكونغرس بات على وشك تبني مواقف المجلس الوطني العراقي، والمسكين طوني بلير أصبح يقف مرتعداً أمام جورج غيلوي وجاك سترو.. وجاك شيراك مع أنه يطالب بعدم انفراد الولايات المتحدة الأميركية بالضربة لبغداد ويصر على ضرورة استقبال العراقيين لفرق المفتشين فوراً وبلا شروط إلا انه سيجهض ويحبط المخططات والنوايا الأميركية!!

كان البسطاء العرب يصدقون بسطاء الشيوعيين من ابناء جلدتهم عندما كانوا يقولون عشية حرب يونيو (حزيران)، التي هي كارثة الكوارث، ان الاتحاد السوفياتي «العظيم» لن يسمح بهزيمة الأنظمة التقدمية في المنطقة، وأن إسرائيل ستُلَقَّنُ درساً لن تنساه إذا حاولت المسَّ بسوريا أو بمصر.. وكانت الحقيقة المرة عندما جاء «بودغورني»، بعد أن احتلت الجيوش الإسرائىلية باقي ما تبقى من فلسطين ووصلت إلى قناة السويس في الغرب وإلى مشارف دمشق في الشرق، ليواسي «الحلفاء الاستراتيجيين» ويكفكف دموعهم ويدعو لهم بالصبر والسلوان وينصحهم بالاعتدال وبالمزيد من الاعتدال والموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي كانت الموافقة عليه تعتبر خيانة ما بعدها خيانة والذي أصبح مطلباً وطنياً وقومياً حتى بالنسبة للذين كانوا لا يقبلون بأقل من التحرير من البحر إلى النهر والقاء الإسرائيليين لتأكلهم.

لا يجوز اشباع العراقيين، الذين يسيرون على حد السيف، بطولات ومراجل فارغة فهناك بالفعل نقاش في الولايات المتحدة وفي دول الغرب كلها حول «الضربة» التي طال الحديث عنها، لكن هذا النقاش ينصب ليس على هذه الضربة ذاتها بل على الكيفية التي ستتم بها وهذا النقاش لا يدور بهذه السخونة لمصلحة بغداد والرئيس العراقي صدام حسين، بل لمصلحة واشنطن والرئيس الأميركي جورج بوش.

كل رؤساء الدول الغربية الذين أعلنوا مواقف مناوئة للضربة، ومن بينهم شرودر وشيراك، لم يُقْدِموا على ذلك لا مساندة لبغداد ولا حباً بصدام حسين ولا تعلقاً بنظام حزب البعث وإنما لتحسين موقعهم في قطار الشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية... وأيضاً للتهرب والتملص من تحميلهم جزءاً من انفاقات هذه الحرب القادمة كما تحملوا ذلك الجزء من انفاقات حرب عام 1991 وعلى وجه الخصوص ألمانيا.

الحسابات الانتخابية إلى جانب التملص من دفع جزء من تكلفة الحرب التي تقدر بنحو «70» مليار دولار هي التي تدفع شرودر إلى اتخاذ هذا الموقف وحسابات إعمار العراق بعد اطاحة النظام القائم هي التي تقف خلف معظم «الرفض» الذي نسمعه بما في ذلك بعض الرفض العربي، ولهذا فإن القيادة العراقية التي أُشبعت مراجل فارغة عام 1990 والتي لم تحصد سوى السراب من المفترض انها تدرك حقيقة كل هذا الذي تسمعه وتراه ومن المفترض ان لها حسابات واقعية أخرى غير هذه الحسابات.

معظم هؤلاء الذين يقفون موقفاً متردداً تجاه «الضربة» المرتقبة والمتوقعة يجدون في العودة إلى مجلس الأمن الدولي المخرج لعدم انفراد الولايات المتحدة بخطوة مماثلة في المستقبل، ومعظم هؤلاء الذين لم يحسموا أمرهم يتمنون من كل قلوبهم ان يرتكب النظام العراقي الخطأ القاتل الذي ارتكبه في عام 1990 عندما راهن على المراجل الفارغة فسهَّل على بوش الأب شن تلك الحرب المدمرة على العراق باسم مجلس الأمن والأمم المتحدة والمجتمع الدولي وليس باسم أميركا وحدها.

في عام 1990 طلب ميتران، رئيس فرنسا في ذلك الحين، من الراحل الملك حسين نقل رسالة إلى صدام حسين تطلب من الرئيس العراقي ان يبادر إلى مجرد إعلان نوايا حسنة وان يبدي استعداداً بدون تنفيذ للانسحاب من الكويت لاحباط مساعي الأميركيين بشن الحرب على العراق باسم مجلس الأمن والأمم المتحدة. لكن هذه الفكرة لم تلتقط جيداً في بغداد فكان ما كان وحصل الذي حصل.

كان ميتران يريد ان تكون الحرب على العراق أميركية فقط وكان يسعى لعدم صدور قرارات عن مجلس الأمن تكون حجة لفرض حملة من السياسات والممارسات الجائرة على بغداد. لكن القيادة العراقية التي لم تكن تصدق، رغم كل ما كانت تراه رؤية العين، ان الحرب قادمة لا محالة لم تستجب لدعوة الرئيس الفرنسي الأسبق ولم تبد أي مرونة تجاه الوساطة الأردنية فكانت كل تلك القرارات التي لا تزال سارية المفعول والتي يستخدمها الأميركيون بكل جدارة للقيام بما هم عازمون على القيام به.

هناك الآن «همروجة» رفض للضربة المرتقبة للعراق، ويبدو ان بعض رموز القيادة العراقية ابتلعوا الطعم الجديد على غرار ما جرى في عام 1990، والدليل على ذلك التصريحات المتشددة التي أدلى بها طه ياسين رمضان الجزراوي خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت والتي وصف فيها «أي» حديث عن عودة المفتشين الدوليين بأنه «تافه»!! والتي قال فيها بأن المعارضة العراقية، التي كما هو معروف تضم الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب «تافهة»!!

المفترض بدل الاستمرار باجترار رفض العمل العسكري ضد العراق ورفض التدخل في الشؤون العراقية الداخلية ان يكون العرب صرحاء أكثر مع بغداد وان يطالبوها، بل ان يمارسوا عليها ضغطاً فعلياً وجدياً، للقبول بعودة المفتشين الدوليين فوراً ووفقاً لما قاله وزير خارجية الدنمارك بيرستيغ مولر في هذا الخصوص بعد اجتماع لوزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي كانوا عقدوه في «السينير» في الدنمارك.

على القيادة العراقية ان تدرك، واغلب الظن انها تدرك هذا، ان بوش ومعه صقور الإدارة الأميركية ينتظرون على أحرِّ من الجمر ان يزداد تشدد العراق، متأثراً بـ«همروجة» الرفض العارمة، بالنسبة لعودة المفتشين الدوليين وان يتمسك بالشروط التي كان اعلنها إزاء القبول بهذه العودة.. عندها لن تجد الدول الأوروبية أي مبرر لعدم الاستجابة للرغبة الأميركية ولن يكون أمام الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بما في ذلك الصين وروسيا، الا التصويت مجددا على ما يريده الأميركيون.

إن ما يؤكد ان الرفض الكلامي الذي يشبه رفض عام 1990 قد فعل فعله في العراق أن طه الجزراوي أخذه الحماس بعيداً بعد استقبال وفد شعبي أردني ذهب إلى بغداد للدعم والمؤازرة، فعاد للحديث عن «الفرس المجوس ـ الذين كانوا دائماً حلفاء للصهيونية» هذا مع ان المفترض ان تكون القيادة العراقية حريصة أشد الحرص، وبخاصة في هذه المرحلة، على تحييد إيران ان هي لم تكن قادرة على كسبها.

ليس في مصلحة العراق هذا الصوت المكابر المرتفع، فالأمور بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) ليست كما كانت قبلها، وإذا كانت القيادة العراقية معتمدة على الشارع العربي «الذي سيتحول إلى قنبلة متفجرة مع أول غارة على بغداد»!! قد اتبعت سياسة هزِّ العصا في وجه العالم كله قبل عقد ونيف من الأعوام فإنها الآن بحاجة إلى سياسة مخملية ناعمة تقدم بلدها على أنه مسالم ومستهدف وأنه ضحية.

في عام 1990 لم ينْبَجس الإرغاء والإزباد والتهديد بالويل والثبور للولايات المتحدة وحلفها إلا عن عملية مخجلة رديئة كانت عبارة عن متفجرة صغيرة وضعت في حاوية قمامة في أحد شوارع أثينا. والآن فإن كل هذا الجبل الهائل من التهديد لن يتمخض إلا عن فأر صغير، وعلى القيادة العراقية المجرِّبة ان تأخذ هذا بعين الاعتبار وان تلعب أوراقها بعيداً عن كل هذا التهويش، وفي مقدمة ذلك شدّ أزر العرب وغير العرب الذين يرفضون الضربة الأميركية المرتقبة، والموافقة على عودة المفتشين الدوليين الآن وعلى الفور وبدون أي شروط مسبقة.

قد لا تنفع الموافقة على عودة المفتشين الدوليين حتى بدون شروط مسبقة إذا جاءت متأخرة ولو يوماً واحداً، ولهذا فإن أخطر ما يمكن ان تقع به بغداد هو ان تشغلها هذه «الهمروجة» التي تشبه همروجة عام 1990 عن التحرك بسرعة للاستفادة من عامل الوقت، فحتى الدقيقة الواحدة لها قيمة كبيرة في هذه الفترة، بينما كل المؤشرات تدل على ان الجنرالات الأميركيين بدأوا عملية العد العكسي.. والكلام في هذه المرحلة هو للجنرالات وليس للذين يطلقون آراءهم من قبيل العلاقات العامة وهم يتكئون على أرائك حريرية.