السودان.. انتكاسة لن تكون الأخيرة

TT

خلال اسابيع قليلة تحول التهليل لتفاهم ماشاكوس بين الحكومة السودانية وحركة قرنق الى عويل ولطم وتبادل اتهامات. وفي الحالتين جنحت ردود الفعل الى المبالغة والتهويل، والى تغليب العاطفة على المنطق، والى تجنب النقاش المنطقي الهادئ لسد ثغرات كبيرة وواضحة في الاتفاق الاخير، وعدم التسرع في اعطاء نتائج وتوقعات مفرطة في التفاؤل.

فقضية الجنوب شائكة ومعقدة يتداخل فيها البعد الاجتماعي مع الاقتصادي، وتتقاطع فيها اعتبارات السياسة والثقافة مع البعد الديني الذي صار عاملاً في الحرب منذ بداية التسعينات مع رفع شعارات الجهاد وطغيان الخطاب الديني على لغة المسؤولين في الخرطوم من خلال سيطرة الجبهة الاسلامية على ادوات الحكم والاعلام بشكل كامل آنذاك. ولهذا السبب من غير المنطقي ان يتوقع احد ان تنتهي هذه الحرب بجرة قلم، او من خلال مذكرة تفاهم شملت اتفاقاً فضفاضاً على الخطوط العريضة، وتركت التفاصيل المعقدة وعدداً كبيراً من القضايا الحساسة الى الجولات التالية. فاتفاق ماشاكوس لم يتضمن نصاً لوقف النار مثلا، وترك المجال مفتوحاً لاستمرار المعارك وهو ما حدث بالفعل خلال جولة المفاوضات الاولى ثم بعد توقيع الاتفاق، واخيراً خلال الجولة الثانية التي توقفت بعد انسحاب الوفد الحكومي احتجاجاً على احتلال الحركة الشعبية لمدينة توريت هذا الاسبوع.

وعلى الرغم من التصعيد الاعلامي والتسخين العسكري، فان كل المؤشرات تدل على ان الطرفين سيعودان الى طاولة المفاوضات خلال فترة وجيزة، لان هناك ضغوطاً دولية واقليمية، ولأنهما ايضا يحتاجان الى اتفاق بعدما تعذر على اي طرف حسم القضية عسكرياً. لكن هل تتم العودة للمفاوضات وكأن شيئاً لم يكن؟

سيكون ذلك صعباً نفسياً وسياسياً خصوصاً على الحكومة التي منيت بانتكاسة عسكرية كبيرة، كما انها تواجه ضغوطاً داخلية وانقسامات حول اتفاق ماشاكوس. ولذلك فانها سترد عسكريا على احتلال توريت، مما يعني ان الجبهة العسكرية ستشهد تسخيناً لبعض الوقت حتى وان عاد المفاوضون الى طاولة الاجتماع.

هذا الامر قد يدفع الوسطاء الى محاولة ترتيب اتفاق «مؤقت» لوقف النار، بهدف اقناع الخرطوم بالعودة الى المفاوضات ولضمان استمرارها بهدف معالجة القضايا العالقة الكثيرة.

لكن هذه الانتكاسة لن تكون الاخيرة، والمشوار ما يزال طويلاً وشائكاً، والسلام الشامل لن يتحقق الا اذا فتحت الحكومة حواراً موازياً مع الاطراف الاخرى المعارضة، وتوسعت المفاوضات لتضم هذه الاطراف بشكل او آخر. ومن دون ذلك لا يمكن ضمان تنفيذ اي اتفاق، او حصول التأييد المطلوب له خصوصاً ان الامر يتعلق بمستقبل البلد كله ومصيره المتأرجح بين الوحدة والانفصال، كما ان هناك جدلاً حول ما يسمى بـ«المناطق المهمشة» الاخرى، وهي امور تحتاج الى حكومة وحدة وطنية، والى قدر كبير من «الاجماع الوطني» حولها.

فأي اتفاق لا يتوفر له هذا الاجماع والتفهم لن يصمد، وسيكون مصيره مثل اتفاق عام 1972 علماً بأن القضايا المثارة اليوم اعقد بكثير من قضايا تلك الفترة، ونتيجتها اخطر بكثير لانها تتمحور حول الاختيار بين الوحدة والانفصال.