السودان: طبعة جديدة ومنقحة من الفشل

TT

ليست هذه المرة الاولى التي تتحطم فيها موجات التفاؤل بتحقيق تسوية سلمية للحرب الاهلية في السودان. فالحرب لم تستمر تسعة عشر عاما حتى هذه اللحظة الا بسبب تصعيد عسكري او قراءة خاطئة للاوضاع وذلك بوضع السيف في موضع الندى، وكنت آمل ان يكون البعض من الطرفين ذلك الذي احتفل بسقوط توريت، ثاني اكبر مدن شرق الاستوائية، والذي رد في المقابل باعلاء لهجة التهديد والوعيد، قد رأى بعض ما حملته الفضائيات من ردود فعل تلقائية لمواطنين عاديين شماليين وجنوبيين وخيبة الامل المرسومة على وجوههم وتعبيراتهم البسيطة عن الرغبة في السلام.

النكسة التي اصابت جهود السلام الحالية باستيلاء الحركة الشعبية على توريت هي الثالثة من نوعها، ففي صيف العام 1986، ورغم لقاء الساعات التسع الفاشل بين الصادق المهدي المنتخب حديثا رئيسا للوزراء في العهد البرلماني الجديد والدكتور جون قرنق، الا ان الامل كان ان تتواصل الجهود التي بدأت منذ الانتفاضة وكرستها اتفاقية كوكادام قبل ذلك بخمسة شهور، وان تتوج بعقد مؤتمر دستوري يفتح الباب امام حل الازمة السودانية، لكن في ذلك الصيف اسقطت مدافع الحركة طائرة مدنية للخطوط الجوية السودانية فوق مدينة ملكال، وليتم وقف الاتصالات بسبب ارهاب الحركة، كما قيل، ودق طبول الحرب.

دار الزمان دورته وفي اواخر العام 1988 تمكن زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي محمد عثمان الميرعني من التوصل الى اتفاق مع قرنق سمي مبادرة السلام السودانية، التي كان ينبغي اعتمادها من الحكومة بصورة رسمية وتنفيذ بنودها لتفتح الباب امام عقد المؤتمر الدستوري في نهاية كانون الاول (ديسمبر) 1988، لكن المهدي الذي كان يرى في نفسه رجل السودان القوي، الذي لا بد ان يأتي السلام عن طريقه، آثر التلكؤ لتجهض تلك المبادرة في مهدها، وهو ما فتح الباب امام تصعيد عسكري وتطورات سياسية داخلية فرضت على المهدي اعادة تشكيل حكومته في آذار (مارس) وبرنامجها الاساسي تطبيق مبادرة السلام تلك.

لكن قوة سياسية ثالثة هي الجبهة الاسلامية القومية استنفرت مواردها لتقطع الطريق امام تلك المبادرة والمؤتمر الدستوري الذي كان مقررا له شهر ايلول (سبتمبر) من العام 1989، وذلك بالقيام بانقلاب الانقاذ الحالي قبل ذلك الموعد بثلاثة اشهر.

من الملاحظات التي يمكن استخلاصها من هذا الاستعراض السريع ان فرصة الحل الذي كان يمكن ان يكون ديمقراطيا بمشاركة كل القوى السياسية وقاصرا على السودانيين فقط، تبددت بسوء التقدير وسياسة وضع السيف في موضع الندى من الجانبين. وليس ادل من ان المباحثات الحالية تقتصر على الطرفين الذين يحملان السلاح، وأحد المطالب التي لا تلقى اهتماما يذكر ان يكون الحل شاملا وديمقراطيا.

في ذلك الوقت ايضا لم يكن مطروحا حق تقرير المصير ولا مستقبل السودان ككيان معروف، لكن قصر النظر السياسي دفع بأحد اركان النظام وقتها الدكتور علي الحاج لطرح هذا الخيار وسيلة لاستقطاب المنشقين عن الحركة الشعبية، الامر الذي جعل من حق تقرير المصير واقعا يصعب على اي قوة سياسية شمالية التراجع عنه، ناهيك من الجنوبيين.

كما ان الحركة الشعبية كانت تتمتع بوحدة تنظيمية، ومهما قيل عن عسكرتها وبرنامجها الغامض وتقلباتها بين الشرق والغرب، الا وحدتها مثلما هو الحال مع اي حركة متمردة، ينبغي ان تمثل خيارا افضل. فالتفاوض مع جهة موحدة ذات قيادة واحدة افضل من التفاوض مع مجموعات كثيرة ومنشقة، بدليل تجربة الانقاذ في التفاوض مع ست مجموعات منشقة لم تستطع ان تقربها من السلام خطوة، بل لم تستطع هذه المجموعات حتى الاقامة جغرافياً في الجنوب لإحداث تأثير على الوضع هناك.

من هذا الوضع يمكن استخلاص ثلاث نتائج: الاولى انه في كل مرة تهدر فيها فرصة لتحقيق السلام، تصبح الاستحقاقات الواجب دفعها مستقبلا اكبر. فحق تقرير المصير الذي لم يكن مطروحا في العام 1989 اصبح شرطا لا غنى عنه لتحرك قطار السلام الآن وفي المستقبل.

والثانية انه مع استمرار الحرب بكل تبعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فانها تفرز واقعا يجعل من الضروري اعطاء الاولوية للجانب الامني وتركيز التفاوض في مرحلته الاولى، التي يتسع مداها بطول النزاع لحملة السلاح في المقام الاول بينما تتبوأ القوى المدنية الاخرى مقعدا خلفيا، هذا اذا اتيحت لها الفرصة. فالاولوية تصبح لتحقيق الامن بمعناه الضيق وضمان عدم انهيار جهاز الدولة كمرحلة اولى لا غنى عنها.

وهي الثالثة الاهم والابرز، انه في كل مرة يتم تأجيل تحقيق السلام، ينفتح الباب على مصراعيه على تدخل اجنبي ويتسرب القرار من بين ايدي السودانيين. وفي مفاوضات ماشاكوس التي جرت في كينيا مثال ساطع ليس فقط بالحضور الاجنبي في شكل مراقبين، وانما بمجموعات الخبراء العديدة التي كانت تدلي بدلوها في كل قضية، تقريبا لوجهات النظر وطرحا لصيغ توفيقية. واذا كان الامر كذلك، فإن المرء لا يستبعد مع استمرار قرع طبول الحرب ووقف عملية السلام الجارية وتضييع وقت ثمين قبل ان تلتئم الجولة المقبلة، الا تكون هناك وساطة بالمعنى المفهوم، وانما املاء للتوقيع واخذ الصور التذكارية فقط، ومن ثم الدخول العملي في عهد الوصاية.

سيطرة الحركة على توريت من قبل لم تحقق لها النصر السياسي الذي تبتغيه، واستعادة الحكومة لها مع 13 نقطة وحامية عسكرية في صيف العبور الشهير العام 1992، لم يحقق لها سلام القوة الذي كانت تنشده، وكل ما فعلته سنوات القتال الطويلة انها اضافت المزيد من التشرذم السياسي والعسكري للتشقق الذي يحفل به السودان، وبالتالي اضعاف فرص البناء على أساس من الوحدة السياسية والاجتماعية.

لقد كان الاعتقاد بأن من احد اسباب الاقبال الحالي على السلام حالة الضعف التي ألمت بالطرفين وزيادة القناعة ان الحرب لن تحقق سلاما ولا تسوية، لكن التطورات الاخيرة تضع خيارا مرعبا وهو ان في الطرفين المتقاتلين على الاقل مجموعات مؤثرة ليست لديها مصلحة في السلام، وانما تتحرك بعقلية امراء الحرب التي تتكسب من ورائها، الامر الذي يجعل الوضع كله مفتوحا على احتمالات اسوأها الاستمرار في الاقتتال الاهلي وافضلها تدخل اجنبي يضع حدا لاحتمالات بروز طبعة جديدة ومتدنية لعهد ملوك الطوائف في السودان هذه المرة، وذلك وفق ما تراه هذه القوى من مصلحة لها في السودان وما يمكن ان تستخلصه منه.

وما اتعسه من خيار لبلد ان ينتظر القوى الخارجية لانقاذه من ايدي بنيه.