التطبيع على الطريقة الأفغانية

TT

أثارت محاولة الاغتيال التي تعرض لها رئيس الحكومة الانتقالية الافغانية حميد كرزاي، سيلا منهمرا من التعليقات حول ما اذا كانت افغانستان قد حققت بالفعل قدرا معقولا من الاستقرار. المتخصصون في العداء لاميركا والذين ما زالوا يعلنون الحداد على سقوط حكم طالبان، اوردوا ذلك كدليل على فشل واشنطن. اما اولئك الذين يرغبون في توريط اميركا في لعبة بناء الامبراطوريات في آسيا الوسطى، فقد استغلوا الحادثة كدليل على ضرورة وجود عسكري اميركي اكثر كثافة مما هو عليه الآن. ولكن الحقيقة هى أن الاوضاع في ذلك القطر طبيعية تماما بالمقاييس الافغانية

وربما تساعدنا نظرة عابرة للتاريخ الافغاني على وضع هذه الحادثة في اطارها الصحيح.

تكونت افغانستان عام 1704، وكانت منذ البداية خليطا من التجمعات القبلية، يجمعها الاعتراف بسلطة اسمية لحاكم بعيد لا يتدخل في شؤونها، يعرف غالبا باسم الشاه او الملك، ويقيم بكابل. وكان الاتفاق الضمني ان القبائل والجماعات المختلفة تعيش في استقلال ذاتي كامل ولكنها تتجمع حول راية واحدة لمقاومة المعتدين الاجانب. ولم تكن القلاقل تنشب بين هذه القبائل الا عندما تحاول كابل ممارسة سلطة حقيقية وليست اسمية فحسب. وكانت مثل هذه الازمة تحل دائما اما باقالة الملك المتقحم او قتله. وخلال القرنين الماضيين قتل ملكان افغانيان واسقط ثلاثة ملوك.

ولم يكن الحكام الذين اعقبوا الملوك في افغانستان افضل حظا من هؤلاء الملوك، بل لقوا في الحقيقة مصائر اكثر بشاعة. فمنذ خلع الملك الافغاني عام 1973، تعاقب على افغانستان 8 حكام. ومن بين هؤلاء قتل اربعة هم: محمد داوود، نور محمد تراكي، حفيظ الله أمين ومحمد نجيب الله. واسقط اثنان من الحكم هما صبغة الله مجددي وبرهان الدين رباني. وقد انقذ السوفيت في الدقائق الاخيرة بابراك كارمال، لانه كان عميلا من عملاء الكي جي بي المخضرمين. اما الحاكم الاخير الملا محمد عمر فقد اجبر على الاختفاء وما تزال القوات الاميركية تطارده حتى الان بجنوب افغانستان.

ولا بد ان نضيف الى هذه المصائر الدامية والعنيفة، مقتل احمد شاه مسعود في مركز قوته بوادي بانشير يوم 9 سبتمبر، قبل يومين فقط من احداث 11 سبتمبر. ومع ان مسعود لم يصبح رئيسا لدولة افغانستان، الا انه صار رمزا للمقاومة الافغانية على مدى عقدين من الزمان، ضد الشيوعيين اولا ثم ضد طالبان. وكان اغتياله هو إشارة البداية لمخطط اوسع رسمه اسامة بن لادن وعصابته المسماة بالقاعدة، شمل فيما شمل الهجمات على نيويورك وواشنطن.

لم يكن احمد شاه مسعود هو الزعيم الافغاني الوحيد الذي يفقد حياته عن طريق الاغتيال. واذا شئنا ان نورد اسماء الزعماء القبليين والسياسيين والدينيين، الذين تم اغتيالهم على ايادي خصومهم واعدائهم، فاننا يمكن ان نخرج بقائمة تقرب في طولها من قائمة «أهم الشخصيات الافغانية».

تعرض حميد كرزاي حتى الآن الى اربع محاولات اغتيال. واغتيل كما هو معروف احد نوابه واثنان من وزرائه واربعة من حكام الولايات. وفي غياب الوسائل الديمقراطية لازاحة الحكام لجأ الافغان دائما الى وسيلتين:

الوسيلة الاولى هي النفي، حيث يسافر القائد المطرود الى الخارج، مصطحبا معه في اغلب الحالات كامل حاشيته، ومشيعا بالتحايا والتمنيات الطيبة، وغالبا ما يكون هدفه مكة المكرمة ليؤدي فريضة الحج او العمرة، ولكنه لا يعود مطلقا الى البلاد مرة اخرى. اما الوسيلة الثانية فهي تتسم بقدر اكبر من المباشرة، وتتمثل في ذبح القائد لينزف حتى الموت.

ان افغانستان تتمتع حاليا بقدر من الاستقرار لم تتمتع به لجيل كامل. ولكن هذا الاستقرار محاط حاليا بالاخطار. ولا تتمثل هذه الاخطار في محاولات الاغتيال التي كانت على الدوام جزءا من الحياة السياسية الافغانية.

الخطر على الاستقرار وعودة الاحوال الى طبيعتها له شكلان:

يتمثل الشكل الاول في المحاولات لتغيير طبيعة افغانستان التقليدية، او مبرر وجودها في الواقع، كدولة عازلة محاطة بقوى متنافسة، وذلك لتحويلها الى جزء من الاستراتيجية الدفاعية للولايات المتحدة. ومن شأن مثل هذه المحاولات ان تولد ردود فعل سالبة من القوى الاخرى ذات المصالح المتناقضة وخاصة في روسيا والصين وباكستان بل حتى الهند. ومن اسهل الطرق التي تستطيع عن طريقها تلك الدول مواجهة الهيمنة الاميركية على افغانستان، هي مساعدة ودعم امراء الحرب وغيرهم من الزعماء القبليين الذين يرفضون التدخل المباشر لكابل في شؤونهم.

أما الخطر الثاني على استقرار وتطبيع العلاقات في افغانستان، فهو المفهوم الخاطئ، والذي يعتنقه كرزاي للاسف الشديد، بأن الاموال والمساعدات العسكرية الاميركية يمكن ان تحول افغانستان من تحالف فيدرالي هش الى دولة تقوم على المركزية الصارمة، تديرها وتسيطر عليها نخبة صغيرة من كابل.

وهناك عامل آخر يعقد الموقف اكثر. فمن المفروض ان يكون كرزاي حاكما مؤقتا، مهمته الاساسية الاشراف على صياغة الدستور الجديد، واجراء الاستفتاء الذي يجيز هذا الدستور، واخيرا تنظيم الانتخابات العامة لتكوين البرلمان وانتخاب الحكومة الجديدة، على ان يتم كل ذلك قبل عام .2004 وهذا يعني الامتناع عن اتخاذ اية اجراءات يمكن ان تحدد طبيعة الدستور بصورة مسبقة او تؤثر على السياسات طويلة المدى التي ستتبعها الحكومة المقبلة. ولكن كرزاي فعل ذلك على وجه التحديد. فقد اقنع الولايات المتحدة بان تساعده في بناء جيش وطني جديد، وهذه مسألة لم تنجح مطلقا في افغانستان. كما اصر كذلك على ان تمر المساعدات التي وعدت الولايات المتحدة و26 دولة اخرى بتقديمها، والبالغة 5 بلايين دولار، عن طريق كابل، مما يعطي العاصمة قوة لم تتمتع بها في يوم من الايام. وبالاضافة الى ذلك لعب كرزاي بالورقة الاثنية، مما خلق الانطباع بان القيادة الافغانية الجديدة ستكون الهيمنة فيها لقبائل البشتون.

ليس هناك أي خطر ان تعود طالبان من جديد. فقد ماتت هذه الحركة الاسلاموية الفاشية عندما قطعت باكستان شريان حياتها بداية هذا العام. كما لا يوجد خطر كذلك ان تستعيد القاعدة، او ما بقي منها من اشلاء، دورا جديدا في افغانستان. ولذلك فان استخدام طالبان والقاعدة كفزاعتين، للحفاظ على الوجود الاميركي او توسيعه، يعتبر ترتيبا سياسيا خطرا على كل الاطراف. وقد حققت الولايات المتحدة نصرا مدويا في افغانستان، ولكنها اختارت الا تعترف بهذا النصر، حتى تتمكن من تمديد وجودها هناك، مما يهدد على المدى البعيد بتعريض هذا النصر نفسه للمخاطر.

ورغم كل مظاهر العنف المتفرقة، فان افغانستان تشهد حاليا درجة من الاستقرار والهدوء والسلام لم تشهده طوال 30 عاما. ويرجع هذا بصورة اساسية الى التدخل الاميركي الذي تشعر اغلبية الافغانيين بالامتنان لحدوثه. ولكن هذه الاغلبية نفسها لن تطيق اية محاولة من قبل واشنطن للتدخل في شؤونها السياسية الداخلية، او الاخلال بتلك التوازنات التي وحدت «بلاد الطغاة»، كما كان يسميها المؤرخون العرب، وجعلتها تسير تحت راية واحدة لاكثر من قرنين. وقد كتب المؤرخ الاسلامي عباس اقبال:

«عندما يكتمل للقائد الغازي النصر في (ارض الطغيان) فانه يكون محاطا حينها باعظم الاخطار. فالقبائل تحوله تدريجيا الى قائد قبلي آخر وتكرمه وتقيم له الولائم. وعندما تحين الفرصة في يوم من الايام فانهم يذبحونه ذبح الشاة».