حديث الحرب غير السياسة

TT

قبل شهر واحد فقط القى تيري ماكوليف، رئيس الحزب الديمقراطي الاميركي، كلمة قوية انتقد خلالها الطريقة التي يدير بها بوش امور الحكم، اذ كان الغرض من إلقاء هذه الكلمة هو افتتاح جولة جديدة في التنافس على انتخابات الكونغرس لهذا العام. فالحزب الديمقراطي جس النبض السياسي للشارع الاميركي، وتوصل الى ان الوقت الراهن هو الانسب للدخول في تحد مع الرئيس.

احجم الديمقراطيون خلال الشهور التي اعقبت هجمات 11سبتمبر (ايلول) 2001، عن انتقاد الرئيس بوش في وقت طور فيه الرأي العام الاميركي علاقة شخصية معه، فضلا عن ان نتائج استطلاعات الرأي، التي اظهرت التأييد الواسع له، حالت دون ان يكون هدفا للانتقادات. ولكن عقب صيف انهيار الشركات والفضائح المالية، بما في ذلك المعلومات التي كشف النقاب عنها حول الصفقات الخاصة بديك تشيني نائب بوش، تغير الوضع السياسي تماما.

اظهرت نتائج استطلاعات الرأي، منتصف اغسطس، ولأول مرة منذ 11 سبتمبر 2001، ان غالبية الاميركيين باتت غير راضية عن الطريقة التي كانت تدار بها البلاد واصبح الاقتصاد فوق الارهاب كأهم قضية تواجه الولايات المتحدة، ونتيجة لذلك تراجع مستوى التأييد للرئيس جورج بوش مقارنة بنتائج استطلاعات الرأي السابقة.

لاحظ المحللون الجمهوريون، في ذلك الوقت، ان الحزب الجمهوري بات في افضل حالاته، بيد ان شخصية ديمقراطية بارزة لاحظت ان الحزب الجمهوري احتل الصدارة بالفعل في اوساط الرأي العام الاميركي، ولكن مزاج الشارع تغير الآن واصبح اكثر استعدادا لتقبل وجهة نظر الحزب الديمقراطي.

جاء طرح وجهات نظر ورؤى الحزب الديمقراطي مدعمة بنتائج استطلاعات ودراسات اظهرت تحولا دراماتيكيا في مواقف الرأي العام الاميركي. فلمدة عام كامل تقريبا، لم يحقق الديمقراطيون أي تقدم فيما يتعلق بأجندة الحزب، اذ ان هيمنة قضيتي الارهاب و«الحرب في افغانستان» تصدرتا الانباء في البلاد، ولم يكن هناك اهتمام يذكر بالاقتصاد او قضايا الميزانية.

ولكن مع انحسار اخبار الحرب عن الصفحات الاولى وصدارة الاخبار بصورة عامة، بدأ الرأي العام يركز على فضائح الشركات وانهيار سوق الاوراق المالية وارتفاع نفقات الرعاية الصحية وازدياد نسبة البطالة. ففيما اظهرت استطلاعات الرأي ان الاميركيين يثقون في مقدرة الحزب الجمهوري على الدفاع عن الولايات المتحدة في وقت الحرب، اظهرت ذات النتائج ان الشعب الاميركي يثق ايضا في مقدرة الحزب الديمقراطي في الدفاع عن المصالح الاقتصادية للمواطن العادي.

لذا جاء إطلاق رئيس الحزب الديمقراطي لأول هجوم واضح ومباشر على البيت الابيض، في هذا السياق على وجه التحديد. فقد اوضح ان الحزب الجمهوري استغل احداث 11 سبتمبر لدفع اجندته، واشار ايضا الى النتائج التي ترتبت على ذلك، خصوصا فيما يتعلق بالعجز في الاقتصاد والميزانية بصورة عامة، واثيرت كذلك تساؤلات حول الصفقات التجارية للرئيس ونائبه قبل الانتخابات الرئاسية السابقة.

من الواضح ان الديمقراطيين شعروا بشيء من الجرأة والشجاعة، فيما اصبح الجمهوريون في، موقف دفاعي منذ منتصف اغسطس (آب) الماضي. دخل العراق، عند ذلك، المسرح السياسي وبنهاية اغسطس تضافرت مجموعة من العوامل لدفع العراق الى مركز الجدل السياسي في الولايات المتحدة. جلسات الاستماع داخل الكونغرس، وسلسلة المقالات التي كتبها عدد من المسؤولين الحكوميين البارزين، والتي باتت بمثابة تحد لوجهة النظر السائدة في اوساط الادارة الاميركية حول حتمية الحرب مع العراق.

ازداد الجدل حول هذه القضية مطلع الشهر الجاري، اذ ابدى معلق ملاحظة لخصها في ان العراق بات الآن القضية المركزية. وبازدياد الانتقادات الموجهة الى الولايات المتحدة بسبب موقفها الاحادي في شن الحرب المرتقبة ضد العراق، تحول الرأي العام الاميركي في الاتجاه المعاكس، رغم انه كان في وقت سابق مؤيدا بقوة لخيار الحرب.

وهكذا قرر الرئيس بوش في 4 سبتمبر الحالي، الإمساك بزمام الجدل الدائر. فقد جمع قادة الكونغرس في البيت الابيض وطرح وجهة نظره امامهم وطالبهم بطرح المسألة امام الكونغرس ودعم قرار بمساندة قيادته.

بعض الديمقراطيين ظل يرفض على مدى شهر تحركات البيت الابيض الاحادية الجانب باتجاه الحرب. اما اعضاء مجلس الشيوخ، فقد اصروا من جانبهم على عدم مقدرة الرئيس بوش على اعلان شن حرب دون مساندة ومصادقة الكونغرس. واذا حاولنا الحكم على المسألة ظاهريا، فإن بوش، فيما يبدو، اهدى للديمقراطيين انتصارا بحملهم على فعل ما كانوا يطالبون به لمدة اسابيع، بيد ان العكس هو الصحيح في واقع الامر.

ولكن ما يريده بوش والجمهوريون الآن، ليس مصادقة الكونغرس على شن الولايات المتحدة حربا على العراق، وانما تركيز انظار الرأي العام على هذه القضية بعيدا عن القضايا التي هيمنت على الانباء خلال صيف هذا العام، ويمكن القول ان هذا حدث بالفعل مسبقا.

من خلال التحليل الذي اوردته نشرة سياسية معروفة للاحداث التي تصدرت الانباء خلال الفترة من الاسبوع الثاني من اغسطس وحتى الاسبوع الاول من سبتمبر، جرى تناول الصفقات التجارية لنائب الرئيس ديك تشيني في الصحف الاميركية من خلال اخبار ومقالات وتحليلات وصلت جملتها الى 243، ولكن خلال الاسبوع الاول من الشهر الجاري تراجع هذه العدد الى 38 فقط، ولكن ارتفع عدد المواد التي تناولت موقف تشيني من الحرب الى حوالي 1000خبر خلال الاسبوع الاول فقط من الشهر الحالي.

فالحديث عن الحرب حجب النقاش حول فضائح الشركات، والمستفيدون هم الجمهوريون. بدأ معدل تأييد الرئيس يرتفع مرة اخرى خلال سبتمبر، ولاحظ احد المحللين، الاسبوع الماضي، ان نسبة تأييد الاميركيين للرئيس بوش ازدادت خلال الفترة الاخيرة رغم التردد الواسع للاميركيين ازاء حكمة شن هجوم عسكري على العراق.

لا يزال الرأي العام يشعر بقلق ازاء الاقتصاد وقضايا الفساد في الشركات، وأبدى تأييدا قويا لمقدرة الديمقراطيين على التعامل مع مثل هذه القضايا. ولكن المشكلة التي يعاني منها الديمقراطيون الآن، هي ان كل الانباء تركز على العراق. وعلى الرغم من التساؤلات في الشارع السياسي الاميركي، فإن تأييد الجمهوريين في اوساط الرأي العام يفوق تأييد الديمقراطيين بنسبة 20 بالمائة فيما يتعلق بحماية اراضي الولايات المتحدة من أي خطر خارجي.

ويبقى ان «الحديث عن الحرب» وحده هو الذي عزز موقف الجمهوريين وحسّن فرصهم في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهو ما يعد تغيرا سياسيا كبيرة خلال شهر واحد فقط.

* رئيس «المعهد العربي الاميركي» بواشنطن