11 سبتمبر الفلسطينية!!

TT

المفترض ان «انتفاضة» المجلس التشريعي الفلسطيني في الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) هذا العام، اي قبل ايام، وليس العام الماضي لم تتأخر كل هذه السنوات العجاف، التي اوصلت المشروع الوطني الفلسطيني الى كل هذا الارتباك والى كل هذه الحالة المحزنة والمزرية، فأعضاء هذا المجلس، الذي هو في حقيقة الامر اول برلمان للفلسطينيين على مدى تاريخ فلسطين الطويل، انتخبهم شعبهم ليراقبوا ويحاسبوا وليعدلوا المسار والمسيرة لدى وقوع اي اعوجاج.

كان الامل ان تكون التجربة الفلسطينية، بعد ان اصبح للفلسطينيين، بدءا بعام 1993، كيان وطني على طريق اقامة دولة مستقلة بالفعل، فريدة ومتميزة ومثلاً يحتذى في المنطقة العربية كلها. فالفلسطينيون لا تنقصهم الثقافة ولا ينقصهم التعليم، وهم عانوا من القهر والقمع واستلاب الارادة ما لم يعانه شعب آخر، وهم فوق ذلك يتداخلون ويتصارعون مع دولة ديمقراطية وكان يجب ان يصابوا بعدوى ديمقراطيتها منذ اللحظة التي وطأت فيها اقدامهم ارض وطنهم.

لا يمكن لصيغة متخلفة ان تدحر صيغة متقدمة، ولا يمكن لعملة رديئة ان تطرد عملة جيدة، ولا يمكن ان ينتصر نظام دكتاتوري فردي على نظام ديمقراطي، ولهذا فإن المفترض ان يدرك الرئيس ياسر عرفات، ومنذ اللحظة الاولى، ان اسلحة صراعه السابق مع الانظمة العربية، لا تصلح للصراع مع اسرائيل، وان طرق ووسائل التعامل مع رابين وبيريز ونتنياهو وشارون ويوسي ساريد، في التقارب والتباعد، تختلف عن الطرق والوسائل والاساليب التي كان يتعامل بها مع الياس سركيس وسليمان فرنجية وكميل شمعون وكمال جنبلاط ومحسن ابراهيم وابراهيم قليلات ومصطفى معروف سعد وجورج حاوي والمفتي حسن خالد.

كان المفترض ان يدرك القادة الفلسطينيون العائدون من المنافي، بكل حسنات وسيئات المنافي، ان صراعهم مع اسرائيل، بمجرد وصولهم الى وطنهم، سيكون ذا طابع حضاري، وان التفوق في هذا الصراع هو للأكثر ديمقراطية، والأكثر عقلانية، والاكثر اعتدالا، والاكثر تمثيلا لحقيقة توجهات شعبه، والاكثر ابتعادا عن الفاسدين والفساد، والاكثر وضعا للرجل المناسب في المكان المناسب، والاكثر بعدا وابتعادا عن انماط الحكم الآسيوية المقيتة.

وكان المفترض ان يدرك القادة الفلسطينيون العائدون من المنافي، وعلى رأسهم ابو عمار، ان عليهم ان يتخلصوا من كل التشوهات السابقة، وان يؤسسوا نظاما يستحقه شعب عانى بما فيه الكفاية، وان يتذكروا دائما لو ان ديفيد بن غوريون اسس دولة شرق أوسطية، على النمط السائد في العالم الثالث، لانتهت هذه الدولة في وقت مبكر، رغم الدعم الغربي غير المحدود ورغم الاسلحة الاميركية والقنابل النووية.

لم يدرك القادة الفلسطينيون العائدون من المنافي كل هذه الامور ونقلوا معهم الى الوطن الذي عادوا اليه كل سلبيات العالم الثالث وفساده وترهله وانفلاشه والاعيبه ومناوراته. وبدل ان يقلد ابو عمار، وهو مناضل وقائد تاريخي بالفعل، ديفيد بن غوريون في الحزم والضبط والربط وحسن اختيار المساعدين، والابتعاد عن الشكليات والتمسك بالاساسيات، قلد اكثر الحكام العرب عنجهية واحتقارا للديمقراطية واعتماد الولاء الشخصي، وليس الكفاءة، صيغة لاختيار المسؤولين الذين من المفترض انهم يتولون انشاء دولة بالمواصفات العصرية وليس بمواصفات «القادة الملهمين»!! وتجارب الانقلابات العسكرية.

كان ابو عمار يتباهى دائما بـ «ديمقراطية غابة البنادق» والحقيقة ان تلك التجربة في اطر ومؤسسات منظمة التحرير وفي العلاقات بين كل المنظمات والفصائل الفلسطينية على مختلف توجهاتها ومرجعياتها وارتباطاتها، لم تكن تجربة ديمقراطية، بل كانت توافقا مفروضا بقوة امتدادات الدول والانظمة العربية في الساحة الفلسطينية. ويقينا ان هذه الديمقراطية العجيبة الغريبة التي حملها القادة العائدون من المنافي معهم، هي المسؤولة عن «انفلاش» الاعوام الماضية الذي كان على حساب هيبة السلطة الوطنية ومركزية قرارها، وبروز كل هذه الاقطاعيات المسلحة التي لكل منها برامجها المتعارضة مع البرامج الرسمية والوطنية المقرة.

لقد خسر الشعب الفلسطيني فرصا ذهبية، وخسر سنوات لا يمكن تعويضها الا بتحويل «انتفاضة» المجلس التشريعي الفلسطيني من انتفاضة استعراضية الى انتفاضة حقيقية، تلغي كل الترهلات والاورام السابقة، وتؤسس لمرحلة جديدة تمكن الشعب الفلسطيني من التقاط انفاسه وتحاصر التطرف الاسرائيلي بالاداء السياسي الجيد وبمركزية القرار وبتوحيد المواقف وضبط الامور واجتذاب التأييد العالمي الذي خسرته القضية الفلسطينية في السنتين الاخيرتين والتعامل مع العالم في عصر القطب الواحد بلياقة غير اللياقة الحالية.