أبرز قيادي طلابي إسلامي في رحاب الله

TT

في طريقي الى بون بالمانيا صباح الجمعة الماضي للمشاركة في مؤتمر عن «تعليم المسلمين في اوروبا» بحكم عضويتي في جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في بريطانيا، التي نظمت هذا المؤتمر بالتعاون مع منظمات وجمعيات اسلامية أوروبية اخرى، نعى الي الناعي وفاة الاخ الصديق احمد عثمان مكي، الذي يعد من ابرز قيادات العمل الطلابي الاسلامي في السودان، والناشط الإسلامي في مجال العمل الإسلامي في أميركا.

ولقد توفي ود المكي يوم الخميس 26 سبتمبر (ايلول) 2002، نتيجة نوبة قلبية بعد عملية جراحية بسيطة. كان الفقيد ناشطا مخلصا كرس جل وقته واهتمامه من اجل العمل المتواصل في خدمة القطاعات الطلابية والشبابية في السودان، وكذلك في خدمة مجتمعه المسلم في الولايات المتحدة الاميركية. وكان الفقيد ذا ثقافة واسعة واطلاع كبير، وهو على فراش المرض كان يطلب الصحف والمجلات وآخر ما طلبه كان مجلتي «نيوزويك» و«التايم» الاميركيتين، ولكن الاجل كان اسرع في الوصول إليه من هاتين المجلتين.

لا يمكن لاحد ان يتحدث عن المكي ومآثره الطيبة وجهده المخلص واجتهاده النير في العمل الاسلامي بالسودان الا ان يذكر مواقفه الشجاعة ابان رئاسته لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم وقيادته لحركة شعبان، حيث برع في تنظيم الاعتصامات وتسيير المظاهرات ضد نظام مايو في عام 1973، فعجزت قوات الامن عن اعتقاله، على الرغم من انه لم يكن خارج الخرطوم، بل كان مرابطا في بعض الاحيان داخل جامعة الخرطوم نفسها قائدا وموجها ومصداماً.

كان دائما يستشعر خطورة امانة الرئاسة، فلذلك عندما انتهت دورة رئاسته للاتحاد، جاء بالامر العجاب، اذ اعلن عن مكان وجوده ودعا قوات الامن اذا ارادت اعتقاله ان تطلبه في العنوان المعلن. وبالفعل ألقي القبض عليه وقضى عامين في السجن، ثم اطلق سراحه بعد المصالحة الوطنية بين نظام الرئيس السوداني الاسبق جعفر محمد نميري وقيادات المعارضة السودانية بما فيها الحركة الاسلامية في السودان بقيادة الدكتور حسن عبد الله الترابي. وكعادته في العزوف عن المناصب لم يسع الى المنصب بل رفض العديد من المناصب التي رشح لها، بدءا بفترة المصالحة الوطنية ومروراً بالعهد الديمقراطي وانتهاء بحكم الانقاذ الوطني، ليس ترفعاً عن المنصب او تهيبا من المسؤولية، بل لانه كان يؤمن ايماناً صادقا بان العمل الفوقي لا يثمر حركة فاعلة في قيادة المجتمع الى الاهداف المنشودة.

عرفت المكي عندما كنت طالبا في مدرسة كسلا الثانوية في السبعينات، وبحكم ان كلينا نشأ في كسلا حاضرة الاقليم الشرقي في السودان، وكان معلماً في المدرسة الشرقية الابتدائية بينما كنت تلميذا في المدرسة الغربية الابتدائية بكسلا، فكان عصاميا حرص على مواصلة تعليمه فدخل جامعة الخرطوم عام 1969، ثم توثقت هذه العلاقة بعد ان اقمنا في المهاجر تواصلاً وتوادداً.

اما الامر الذي استرعى انتباهي في شخصية المكي هو مقته للرئاسات وعزوفه عن المناصب، ودليلي على ذلك امران، الاول في عهد الديمقراطية الثالثة انتخب عضوا في الجمعية التأسيسية (البرلمان) عن الجبهة القومية الاسلامية، وشاركت هذه الجبهة في حكومات السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء آنذاك فلم يقبل المكي اي منصب في تلك الحكومات، كل الذي قبل به هو رئاسة تحرير صحيفة «الراية» لسان حال الجبهة القومية الاسلامية، فجعل منها الصحيفة السياسية اليومية الاكثر توزيعا في السودان آنذاك. اما الامر الثاني في عهد الانقاذ الوطني قبل الانشقاق فكان عندما عرضت عليه الوزارة فرفضها ثم عرضت عليه السفارة فرفضها، واخيرا عرض عليه منصب كبير في المؤتمر الوطني قبل ان يتشعب الى مؤتمرين، وطني وشعبي، فلم يكن مصير هذا المنصب بأحسن من الآخرين. ولكن بمعرفته اللصيقة يتبدد الاستغراب وينتفي الاستعجاب.

زار المكي السودان بعد انقسام الحركة الاسلامية في فبراير (شباط) 2001، فالتقيته عند زيارتي الى السودان في تلك الفترة، حيث زرته والاخ محجوب عروة الناشر السوداني المعروف لتقديم واجب العزاء في وفاة والد زوجته، فعلمنا منه انه كان قبل مجيئنا في لقاءين مع طلاب المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) وطلاب المؤتمر الشعبي (حزب الترابي) كل على حدة، فلم نستغرب ذلك لمعرفتنا بالفقيد ومعرفتنا ايضا بحرصه الاكيد على الحركة الطلابية الاسلامية منذ كان مسؤولا عن مكتب الطلاب في الحركة الاسلامية السودانية.

لقد هاجر المكي الى اميركا للدراسة واستقر به الحال في مدينة شيكاغو، فشيكاغو لمن لا يعرفها موطن طيب من مواطن العمل الاسلامي، خاصة بين الاميركيين السود وغيرهم من الاقليات العرقية الاخرى بالاضافة الى اهلها الاميركيين البيض، فهو رجل يؤمن بفقه الاولويات متأثرا في ذلك بآراء ابن تيمية، فرأى ان الاولوية في هذه المرحلة للعمل الاسلامي وليس للدراسة والتحصيل الاكاديمي، وقليل من الاسلاميين يعرفون ان الفقيد كان وراء اقناع الدكتور الترابي بابتعاث شباب الحركة الاسلامية السودانية الى اوروبا واميركا. المهم انه انخرط في العمل الاسلامي بأميركا منذ عام 1979الى ان توفاه الله تعالى عدا سنوات العهد الديمقراطي في السودان (1986 ـ 1989)، وهو من دعاة التجديد والتحديث والاخذ بأساليب العصر في العمل الاسلامي سواء في السودان أو اميركا.

ولقد التقيت الفقيد في شيكاغو عند زيارتي الاخيرة الى الولايات المتحدة في يوليو (تموز) الماضي فوجدته مليئا بالحركة والنشاط والتفاؤل رغم آثار تداعيات 11 سبتمبر على الاسلام والمسلمين. فالحق يقال ان الفقيد عمل جاهدا ومخلصا وأمينا من اجل خدمة الاسلام والمسلمين في مجتمعه الاميركي بذل جهداً مقدراً في العمل مع الاتحاد الاسلامي لاميركا الشمالية (اسنا) حتى ظن البعض انه في فترة من الفترات تولى رئاسة هذا الاتحاد، ولكنه كما ذكرنا آنفا كان يخلص في كل عمل يوكل اليه ويبادر لانجاح مهمته في ذلك الموقع فتحسبه رئيس ذلك الموقع.

وكان المكي يمثل الاعتدال والوسطية في الحركة الاسلامية السودانية، وكان ناشطاً في الكثير من المنظمات الاسلامية، والذين يعرفونه من قيادات العمل الاسلامي في اميركا يعتبرونه شخصاً قيادياً متفانياً في عمله ومخلصاً لدعوته.

وختاماً أسأل الله تعالى ان يتقبل اخانا المكي قبولا طيباً حسناً ويلهم ذويه واصدقاءه ومعارفه الصبر الجميل.

«وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله كتاباً مؤجلاً»