البخيل والثقيل

TT

من احسن الخلطات الاجتماعية في عالم الفكاهة اختلاط البخيل بثقيل. وهذا ما حدث بالضبط عندما اعتاد احد كبار البخلاء على قضاء وقته مع احد كبار الثقلاء في مقهى السراي في بغداد. اعتاد هذا البخيل الكبير على قطع ما يزيد على عشرين ميلا، ذهابا وايابا كل يوم، بين بيته في الاعظمية ومقهى السراي، ليلتقي بزميله الثقيل ابو فاضل، ويستعير منه صحيفة الاهرام التي كانت تصله في البريد، وللفوز بنسخة الجريدة بعد ان يفرغ منها ابو فاضل كان صاحبنا البخيل يجلس ويتحمل كل سخافات ومزعجات زميله الثقيل الذي كان يتحاشى هذيانه حتى صباغ الاحذية الذي سمعته يوما يعتذر له عن دهن حذائه بالقول: «متأسف عمي حرمتي نست تحط الدهن الاسود اليوم».

وكان ابو فاضل يبدأ هذيانه دائما بالعبارة الثقيلة، «لو بس يجي الحكم بيدي» ورغم ان هذه العبارة كانت من العبارات المحببة للجمهور واكثرها ترددا على السنتهم، فان استعمال ابو فاضل لها كان يعطيها وقعا بغيضا على النفس: «لو بس يجي الحكم بيدي كان نصبت مشانق في كل ساحات بغداد واشنق كل من ياكل كباب في الباص». وبعد دقيقتين تسمعه يقول: «لو بس يجي الحكم بيدي، كان شنقت كل من يحلق شواربه». فالناس هناك يعتقدون ان المشنقة تحل كل مشاكل العالم، بما فيها المشاكل الزوجية. وكان سيد عبود يستمع لكل ذلك بإعجاب وعينه على الجريدة.

ادهشني هذا الحرص على متابعة اخبار مصر وانتظار ابو فاضل حتى ينتهي من الجريدة ليأخذها منه. اكتشفت السر عندما لاحظت الرجل يخرج من المقهى ويقص الطابع المصري من الجريدة ثم يرمي بها في الزبالة. كان يقطع هذه المسافة كل يوم ليحصل على هذا الطابع ويضيفه لما يجمعه من الطوابع المستعملة ويبيعها في آخر الشهر لمعرض الطوابع بربع دينار.

هذه نصف الحكاية فقط. كانت له عادة اخرى. يقضي ليلة الجمعة مع ثقيل آخر مكواتي، شغف ككل اصحاب هذه المهنة بالهذرفة ككل المتعاطين بالسياسة عندنا. كان يستمع له بنفس الإعجاب والتقدير. يكون المكواتي اثناء ذلك قد قدم له طاسة مليئة بالماء الدافئ، يضع فيها صيده من الطوابع لينقعها ويخلعها سليمة كما تقتضي تجارة الطوابع. اكتشف بما أوتي من قوة الملاحظة الاقتصادية، ان حنفية الدكان لم تربط بميزانية، في حين ان الماء في بيته كان خاضعا لذلك وكانت طاسة الماء حسب تقديره تكلف نحو فلسين او ثلاثة في الستة اشهر. وهو امر تلافاه بالاعتماد على كرم المكواتي، خاصة بعد ان اكتشف ان دكانه كان قبليا يعطي الشمس فرصة لتسخين مائه مجانا.

وهذه حالة توضح بجلاء كيف ان البخل والثقل كثيرا ما يلتقيان تماما مثل التقاء الجبن بالاستبداد والجهل بالاصولية.