بخيل ومطعم؟

TT

العام 1972 التقيت في لندن الزميل بسام فريحة. وبعد التحية والسلام، سألني الى اين انا ذاهب ذلك المساء، فقلت الى مطعم لبناني في منطقة فيكتوريا. وضحك بسام قائلاً: «هل طرت 5 ساعات من بيروت من اجل صحن فول؟». كان ذلك اول مطعم لبناني في لندن. وكان بقالة صغيرة حولها صاحبها الى بضعة مقاعد واشرطة لفيروز واوعية زجاجية فيها كبيس خيار ولفت وخبز افرنجي لأن الخبز العربي لم يكن متوافرا بعد.

رأيت اصابع الرجل تهتز بخلاً وهو يضع الصحون امامي. وكلما طلبت منه ان يغير صحن الزيتون، كان يتوقف كأنه يهم بالبكاء. ويسرح بعيداً مثل فريد الاطرش في دور الاستاذ «وحيد»، لكنه يعود ويذهب الى الرف ويعود بصحن من الزيتون وعيناه غائرتان ويده ترتجف وساقاه مثل ساقي «شوشو» (حسن علاء الدين) عندما يضع واحدة قبل الاخرى وهو يمثل في حضرة زوجته وقد فرشت على رأسها قبعة من القش الايطالي. لكن شوشو (علاء الدين) كان من اظرف خلقه واكرم عباده. اما هذا فسوف يقضي هذا المساء اذا ما طلبت شيئاً آخر. وكان في ظني انه كلما طلب الناس لوناً اضافياً من صاحب مطعم، اصابه فرح وابتهاج، لكن العادات السيئة لا تغير بسهولة. فهذا الرجل كان مضطرا من قبل الى اطعام اولاده، ويبدو ان المساكين كانوا يحبون الزيتون، او يبالغون في اكل الخبز. والا لماذا يحتقن وجهه وتنتفخ طبوله كلما ناديته: «قطعة خبز من فضلك».

وفي اليوم التالي ذهبت ازور الراحل سعيد فريحة في فندق «المايفير»، وكان بسام هناك. وسألني «كيف كان العشاء امس»؟ فقلت «عسر هضم. وعسر يد. وشريط فيروز منزوع». واضفت: «اذا التقينا في لندن بعد عشرين عاماً سوف تجد هذه البقالة في مكانها ووعاء الكبيس لم يتغير والزجاج الخارجي يعلوه الغبار». لم يكن احد يومها يتوقع ان تقع حرب لبنان العام .1975 والعام 1978 انتقلنا للحياة في لندن. وبدأت المطاعم اللبنانية تنتشر في المدينة حتى اصبحت جزءا منها وعلامة من علاماتها، مثل المطاعم الصينية او الايطالية. وطبعا لا مطاعم بريطانية في لندن. فمن اجل الحصول على اللحم البقري مع خبز يوركشاير يجب ان تذهب الى الريف. ولا طبق آخر في بريطانيا سوى الفاصولياء مع صلصة البندورة. انه بلد لا ثمار فيه ولا جنائن معلقة مثل فرنسا وايطاليا. وكان يكفي ان تقع تفاحة واحدة على رأس اسحق نيوتن لكي يخترع قانون الجاذبية برمته.

قبل اسابيع كنت في منطقة فيكتوريا لكي استقل القطار الى مطار غاتويك للسفر الى البرتغال. وانتبهت فجأة الى واجهة خيّل الي انني اعرفها. واجهة علاها الغبار وفيها اوعية زجاجية فيها كبيس. وعليها ايضاً كتابات بالعربية والانكليزية. دفعت الباب ومعي حقيبتي. ووجدت الرجل هناك، يرتجف، وقد علاه شيب كثيف مثلما علانا شيب ضئيل. ولم يعرفني طبعا. وسألني ان كنت اريد شيئاً ما، فقلت: «من فضلك، صحن زيتون».