وثيقة فلسطينية: حل الدولتين لم يعد واقعيا

TT

«إن سياسة الاستيطان الاسرائيلية تؤدي الى فشل تطبيق حل يقوم على اساس دولتين، دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل».

هذه هي خلاصة وثيقة فلسطينية تم اعدادها مؤخرا في دائرة المفاوضات الفلسطينية التي يشرف عليها محمود عباس (ابو مازن)، وهي خلاصة مؤداها استحالة ادارة مفاوضات فلسطينية اسرائيلية جديدة، تحاول ان تصل الى حل حسب قواعد مؤتمر مدريد أو حسب بنود اتفاق اوسلو او حسب «رؤية» الرئيس الاميركي جورج بوش للدولة الفلسطينية، ولهذا فإن عنوان الوثيقة جاء كما يلي: «اسرائيل تحبط حل الدولتين»، وقالت ان مواصلة الاستيطان الاسرائيلي «سيجبر صانع القرار الفلسطيني على اعادة النظر في احتمالية ومنطقية حل الدولتين» وتصل الى نتيجة تقول ان «الخيار الوحيد الذي سيبقى امام الفلسطينيين هو قبول حل دولة واحدة لشعبين»، مع العلم بأن اسرائيل لن تقبل بهذا الخيار خوفا مما يسمونه «الخطر الديمغرافي الفلسطيني».

تعرض الوثيقة بالتفصيل وبالخرائط، مخططات الاستيطان الاسرائيلية في الضفة الغربية بشكل عام، وفي القدس ومنطقتها الكبرى بشكل خاص، والطرق التي تبنى لتصل بين المستوطنات والقدس والاراضي التي يصادرها «الجدار الفاصل» الذي يجري بناؤه الآن، والذي يستولي على 6 ـ 8% من مساحة الضفة الغربية. وقضية الـ 90 ألف مواطن فلسطيني الذين يجبرهم الجدار الفاصل على ان يعيشوا في منطقة عازلة تفصل بين الضفة الغربية وحدود دولة اسرائيل، وتصل الوثيقة من درس هذه الوقائع المفروضة على الارض، الى انه يستحيل اقامة تواصل جغرافي بين ما يتبقى من الارض بحيث يمكن ان تنشأ فوقها دولة فلسطينية قابلة للحياة.

على ضوء هذه الدراسة، واذا اردنا ان نستعرض الاحتمالات النظرية لحل المشكلة الفلسطينية في مفاوضات مع اسرائيل، فسنجد ان هناك خيارات اخرى، يملك الفلسطينيون الشجاعة السياسية لبحثها، بينما يخاف منها الاسرائيليون ويرفضونها.

الاحتمال الاول: انشاء دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة، وهو الوصف الذي اطلقه لأول مرة طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني. وحسب الوقائع التي عرضتها الوثيقة الفلسطينية، فإن هذا الحل اصبح مستحيلا الا اذا قام على اساس الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الاراضي التي تم احتلالها في حرب حزيران 1967، وعلى اساس قيام سيادة فلسطينية كاملة فوق هذا الجزء من الارض الفلسطينية. وهذا الانسحاب الكامل حتى حدود حزيران (يونيو) 1967، هو جوهر مبادرة الامير عبد الله ولي عهد السعودية، والذي تحول الى مبادرة عربية في القمة المنعقدة في بيروت. وهي مبادرة تعرض الانسحاب الشامل مقابل السلام العربي الشامل مع اسرائيل. وقد رفضت حكومة شارون المبادرة العربية، وقامت ردا عليها باجتياح الضفة الغربية ومحاصرة الرئيس ياسر عرفات في مقره في رام الله (الحصار الأول).

الاحتمال الثاني: انشاء دولة واحدة (فلسطينية ـ اسرائيلية)، وتكون دولة واحدة لشعبين، وهو ما يطلق عليه بعض الباحثين وصف «دولة ثنائية القومية»، يشكل فيها اليهود مجموعة قومية، ويشكل فيها الفلسطينيون مجموعة قومية ثانية، وتنظم المجموعتان فيما بينهما شكل الحكم الموحد، ونسب التمثيل، مع الاقرار بحرية الافراد في التنقل والاقامة داخل «دولتهم».

ومن المفيد ان نذكر هنا، ان المفكرين اليهود هم اول من اقترح انشاء دولة ثنائية القومية في مطلع العشرينات، حين جاءوا الى فلسطين واكتشفوا (!!) وجود شعب فيها، وادركوا حرص هذا الشعب على ارضه ووطنه، واستعداده لمقاتلتهم من اجله، فاقترحوا هذا الحل لأنهم استهولوا الجريمة التي سترتكب بطرد هذا الشعب من ارضه واحلال اليهود القادمين من اوروبا مكانه، ولكن هذه الرؤية اليهودية الاستراتيجية انهزمت امام التيار الصهيوني الفاعل بقيادة حاييم وايزمن، وكذلك بقيادة جابوتنسكي (الأب الروحي للارهاب)، وهو الآن حل مرفوض تماما من جميع التيارات السياسية الفاعلة في اسرائيل، وهو مرفوض بشكل خاص، بسبب ما يعتبره اليهود الخطر الديمغرافي الفلسطيني، حيث سيتحولون بعد عقود من الزمن الى اقلية.

الاحتمال الثالث: انشاء «الدولة الديمقراطية العلمانية»، التي تضم المسلمين والمسيحيين واليهود، ويكون الانتماء اليها فرديا على اساس المواطنية، وتكون ديمقراطيتها حسب النسق الشائع (صوت لكل مواطن). وقد بادر الفلسطينيون عام 1968 الى طرح هذه الفكرة علنا، اولا في النشرات الدعاوية التي كانت تصدر في لندن (نشرة فتح ومقالات عبد الوهاب الكيالي)، وثانيا في باريس، عبر مداولات كانت تجري بين مسؤولين فلسطينيين (محمد ابو ميزر) ومسؤولين جزائريين من قادة جبهة التحرير، تمت فيها بلورة الاقتراح، ثم تولى المسؤولون الجزائريون سبك الاقتراح بصياغة قانونية (عبد الحميد المهري)، وثالثا في كلمة رسمية للوفد الفلسطيني الى مؤتمر عدم الانحياز في بلغراد، وكان الوفد برئاسة خالد اليشرطي، وهو حينئذ مسؤول في حركة فتح، وقد احدث اعلان هذا المطلب في حينه ضجة كبيرة، ولقي تأييدا ودعما من كثير من الاوساط التقدمية في اوروبا، ولكن اليهود رفضوه واعتبروه دعوة لتدمير دولة اسرائيل، وكان رفضهم له سببا في عودة الفلسطينيين بعد حرب تشرين الاول (اكتوبر) 1973، الى تبني شعار الكيان الفلسطيني ثم شعار الدولة الفلسطينية.

الاحتمال الرابع: تبني حل قائم على اساس قرار التقسيم الصادر عام 1947، والذي قُبلت اسرائيل في الامم المتحدة قانونيا على اساسه، وتم ربطه بضرورة موافقة اسرائيل على عودة اللاجئين الفلسطينيين الى «منازلهم» وقد يبدو غريبا ان نطرح الآن احتمال حل يقوم على اساس قرار التقسيم، بينما تجري كل المفاوضات على اساس حدود عام 1967، ولكن السبب الذي يدعو الى طرح هذا الاحتمال الآن كاحتمال واقعي، هو الاقتراحات الاسرائيلية التي يتم اعلانها على لسان مسؤولين كبار من نوع ايهود باراك رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق فقد بادر باراك في مقابلة مطولة اجراها معه المؤرخ الاسرائيلي «بني موريس» ونشرت في مجلة Newyork Review of Books، الى الحديث مطولا عن الخطر الديمغرافي الفلسطيني على يهودية دولة اسرائيل، واقترح مبادلة الفلسطينيين المقيمين في وطنهم وفوق ارضهم داخل دولة اسرائيل، بالمستوطنين اليهود داخل الضفة الغربية، واشار الى ان المبادلة التي يقترحها هي للسكان وللاراضي، حتى انه قال ان هذا الحل قابل للتنفيذ. فإذا كان شخص في مستوى باراك مستعدا لاعادة النظر في حدود دولة اسرائيل، فإن البحث في الامر يحتاج الى مرجعية يتم الاستناد اليها، وافضل مرجعية هنا هي مرجعية الشرعية الدولية، والشرعية الدولية الوحيدة القائمة والمعترف بها هي قرار التقسيم، ولكنه ايضا حل ترفضه اسرائيل.

لقد عرضنا هنا احتمالات لحلول اربعة، يتوفر لدى الفلسطينيين استعداد للبحث بها بجرأة وشجاعة سياسية، ومن دون اي خوف، ولكن المسؤولين الاسرائيليين يرفضون البحث بأي احتمال، ولا يرون مجالا الا لفرض ما يريدون بالقوة المسلحة وهي بذلك تكون قد وضعت نفسها في مواجهة دائمة مع الفلسطينيين ومع العرب، وهي مواجهة ستعني العيش في مناخ حروب متصلة، وهي حروب لها نهاية تاريخية معروفة.

يبقى ان نقدر لدائرة المفاوضات الفلسطينية علميتها في طرح خطر الاستيطان الاسرائيلي، وتبيان تأثيره على القرار السياسي، كما نقدر لها جرأتها في الاشارة الى البديل التفاوضي الذي ينتج عن مواصلة هذا النوع من الاجراءات الاسرائيلية، وهي جرأة تشجع على المطالبة بتكوين «خلية تفكير استراتيجية» فلسطينية وعربية، تدرس الاحتمالات كافة وتضعها امام القيادة السياسية كبدائل، على ان تكون لكل بديل خطته التمهيدية الاعلامية، بالمعنى الثقافي والاستراتيجي للاعلام وليس بالمعنى اليومي المباشر.

ومن المفيد الاشارة هنا الى ان الكاتبة الاسرائيلية عميرة هاس، التي كتبت في «هآرتس» عن الوثيقة الفلسطينية، انتقدت الحملة الاعلامية الاسرائيلية التي تحاول تصوير الوضع الفلسطيني الداخلي بأنه وضع مؤامرات ودسائس، بينما هو وضع منشغل بالامور السياسية الاساسية مع محاولة جادة للتوصيف واقتراح الحلول.