غارسيا ماركيز في متاهاته

TT

حزنت جدا عندما علمت ان غابرييل غارسيا ماركيز يعاني من سرطان الغدد الليمفاوية، وأنه دخل المستشفى في لوس انجليس في الولايات المتحدة حيث خضع لبرنامج من العلاج الكيماوي قبل ان يعود الى بيته في مدينة المكسيك. وهناك قطع علاقته بالعديد من اصدقائه بل قطع اسلاك التليفون حتى لا يتصل به احد. ومن الممكن ان اتصور حالته المركبة التي لا نستطيع وصفها بدقة، لكن هذا الرجل المحب للحياة حتى الهوس، الخائف من الموت، والذي كتب اكثر اعماله انطلاقا من هذا الخوف، يجلس اخيرا وحيدا وجها لوجه امام الموت. والغريب انه عندما سئل عن الموت وهل يخافه قال: اني لا اخافه بل انه يغيظني. وفي مناسبة اخرى قال ان الذي يضايق في الموت أنه ابدي او يستمر الى الابد.

ومع أن روايته المشهورة «مائة عام من العزلة» تحمل الكثير من المعاني الا ان احد معانيها الخطيرة أن الحياة البشرية على كوكب الارض قد تنتهي بشكل كامل ولا تترك اي أثر كما حدث في قرية «ماكوندو» موضوع هذه الرواية. فبعد مائة عام فقط انتهت تماما الاسر التي عاشت في هذه القرية حتى أن النمل جاء اخيرا وأكل كل شيء بحيث عاد المكان الى اصله ارضا خالية من اي حياة تقع على حافة النهر، وصار من الصعب أن يدرك أحد أنه كانت في هذا المكان حياة صاخبة مليئة بالحروب والعداوات والحب والشهوات الجامحة. فالموت عند غارسيا فناء كامل، انكار تام للوجود وكأنه لم يكن.

ومن هذه النظرة المخيفة ترد على ذهنه فكرة هشاشة الحياة الانسانية، وفي احدى قصصه القصيرة اصيبت العروس، في القصة، ليلة زفافها بشكة في اصبعها من شوكة في باقة ورد مهداة لها بمناسبة الزواج ولكنها لم تهتم بها وراحت تمسح قطرات الدم الصغيرة التي تقطر من اصبعها ومضت هي وزوجها الى المدينة التي خططا ان يقضيا شهر العسل فيها. ومع مضي الوقت لاحظت ان الدماء لم تتوقف عن النزف واضطر زوجها ان يأخذها الى المستشفى ومع كل العلاج الذي حصلت عليه ظل اصبعها ينزف الى ان فارقت الحياة.

وهاهنا تتضافر الفكرتان الخطيرتان، فكرة الغياب المطلق للجنس البشري في كون يعد بمليارات السنين، ولا حدود لاتساعه وغموضه، ثم فكرة هشاشة الحياة وزوالها عن الكائن الحي لابسط الاسباب.

ولغارسيا ماركيز أكثر من رواية تحتمل العديد من التفسيرات، فهو ككاتب من امريكا اللاتينية ولد في قرية صغيرة في كولمبيا وعانى كغيره من مواطنيه من الانقلابات العسكرية وحكم العسكر بشكل عام، تناول هذا النوع من الحكم ورسم الخطوط العريضة للحاكم العسكري بحيث لم يعد مهما ان يميز شخص هذا الحاكم عن غيره وكأن الديكتاتورية العسكرية «شخصية» فردية ونسخة مكررة مهما اختلف الديكتاتوريون. وتجسدت، في رواياته بدءا من «خريف البطريارك» و«لم يكتب احد للكولونيل» و«الجنرال في متاهاته» او «الحب في زمن الكوليرا» الى تحقيقه الشهير عن عملية الاختطاف، حالة تدهور المجتمعات والدول في امريكا اللاتينية وفساد الانظمة الحاكمة بما يجعل الحياة شبه مستحيلة وسط الحماقات والرذائل التي تلازم الجنس البشري.

وعلى الرغم من هذه الرؤية المتشائمة تفيض اعماله بالمرح والسخرية، وبهذا الخلط العجيب بين الواقع والغرائب التي تحيط به، حتى أنه يعتبر اول كاتب ابتكر هذا اللون من الادب الذي راح يسمى منذ ظهور غارسيا ماركيز «الواقعية السحرية» ففي واقعه هذا البالغ الواقعية تظهر غرائب، كأن تطير في الهواء فتاة وتحوم قليلا ثم تعود الى الارض، او يظهر قارئ من قراء الغيب يتنبأ بشيء ما لا يلبث ان يحدث. وغالبا ما يريد ماركيز الاطمئنان الى وجود شيء آخر خلف هذا الظاهر الخاوي دون أن يورط نفسه في مفاهيم ميتافيزيقية او يتجه الى حلول خارج دائرة الامكان القائم. وحين يعرض لالعابه السحرية هذه يبدو كما لو كان يهذر او يداعب نفوسنا القلقة، كأنما يحلم هو وقارئه بذلك الوجود السحري الغامض والمثير كأمل خرافي لا ينبغي تصديقه او الاعتماد عليه الا من باب الهذر.

وفي المقابل فهو رجل محب للحياة بكل جوارحه، وربما كانت اصابته بالسرطان بسبب اسرافه في التدخين، وهو محب للطعام ويبدو في شاسات التليفزيون عندما يظهر في احد البرامج رجلا ممتلئا متماسك البنية وفي عنفوان صحة جيدة. وهو صديق لرجال من السياسيين يتميزون مثله بالاقبال على الحياة مثل الرئيس فيدل كاسترو رئيس جمهورية كوبا الذي عاش في صحبة العديد من النساء والذي ما زال قوي البنية يستطيع ان يقف عدة ساعات خطيبا دون أن يتوقف امام جمهور عريض له يعجب به كنموذج لحب الحياة والاقبال عليها. ومثل الرئيس الامريكي السابق بيل كلينتون الذي يعتبره الكثير من مثقفي عصرنا من المثقفين الذين يندر ان يتولى واحد منهم منصبا سياسيا كبيرا دعك من رئاسة اهم دولة في العالم. وكذلك الامر بالنسبة لفرانسوا ميتران الرئيس الفرنسي الاسبق الذي كان مشهورا باتساع ثقافته وبحبه الجارف للحياة ايضا. ورغم هذا الاقبال على الحياة فهو منظم في حياته بدرجة توشك ان تشبه كاتبنا نجيب محفوظ، فهو يصحو مبكرا ويجلس الى الكمبيوتر ويشرع في الكتابة لساعات طويلة. وحكى في عدة مناسبات أنه يجلس احيانا عدة ساعات، وربما توقف عن العمل ، بحثا عن لفظة مناسبة لم تواته ساعة الكتابة. فهذا الاسلوب السهل المتدفق لا ينطلق بالبساطة التي يبدو بها. والكثير من نقاده يشيرون الى هذه القدرة على السهولة والبساطة باعتبارها احدى الخبرات التي اكتسبها من عمله الصحافي الطويل. على أنه، وعلى الرغم من طبيعته الابيقورية، محب للعمل في الوقت نفسه والكثير من اعماله اقتضت منه وقتا طويلا من الاعداد والتفكير والجهد.

شاهدته اكثر من مرة في مقابلة تلفزيونية بعد حصوله على جائزة نوبل فكان نموذجا للمثقف الملتزم المهتم بقضايا العدل والحرية وقرأت محاوراته الاخرى ومنها علمت أنه قرأ نجيب محفوظ واعجب به وأنه على معرفة جيدة بمجتمعات العالم الثالث وعالمنا العربي بصفة خاصة حيث تزخر الحياة في امريكا اللاتينية بذكريات عربية كثيرة متناثرة في الادب المتداول.

منذ أخبر باصابته بالسرطان ودخوله المستشفى وهو يعاني من رغبة حادة في الاعتزال، وحين خرج للاستشفاء قرر ان يقطع اتصاله بالعالم الخارجي وخاصة اصدقاءه، على أنه لم يعتزل ليجلس وحده يحملق في الموت ويتأمل وضعه الصحي والنفسي بل بدأ يكتب على الفور مذكراته، وهي حالة تنتاب الانسان عندما يعرف ان الموت يتهدده وكأنه يريد أن يدلي بآخر ما عنده قبل أن يمضي، وبالفعل انهى الجزء الاول من مذكراته الذي سوف يصدر في نهاية هذا الشهر، ويبدو أنه خطط لتكون مذكراته في ثلاثة اجزاء ـ هكذا نشرت الصحف ـ ويبدو من الاخبار التي سربت الى الصحف ان ماركيز يحكي في هذه المذكرات كل شيء عن حياته، وقيل إنه قبل الكتابة راح يسترجع كل التفصيلات عن طريق الناس الذين عاشرهم او عمل معهم حتى تتكامل الصورة التي ينشدها عن هذه الحياة. ومن خلال الفقرات التي سربت الى الصحف يظهر ان ماركيز يضع بصمته النهائية على الحياة ولعله قد اكتشف مغزى او معنى لأنه اختار عنوانا لافتا للنظر لهذه المذكرات اذ سماها «عشت لأحكي» ومع أنه كتب كثيرا عن الحياة في كتبه السابقة وابدع في تعريفنا بجوهرها وفي اسلوب ادبي رفيع المستوى، ولكن يبدو أنه هنا يستعيد كل شيء من جديد ويتأمل كل التفصيلات ويصيغ تجربته الحياتية في صورتها النهائية. ترى ما الذي رآه اخيرا واستخلصه من هذه التجربة الغنية المليئة بالتنقلات والنقائض.

لاحظت ان كتب غارسيا ماركيز ترجمت اغلبها الى اللغة العربية، وروايته الاولى «مائة سنة من العزلة» ترجمت الى اللغة العربية في وقت مبكر حتى قبل ان يظفر بجائزة نوبل ويشار في بيان لجنة الجائزة الى هذه الرواية بالذات. أظن ان هذه الترجمة ظهرت في سوريا ثم تتابعت الترجمات الاخرى مما يدل على أن الناشرين العرب وقراءهم يدركون الصلة القوية بين عالم غارسيا ماركيز وعالمنا العربي، وبالفعل من يقرأ هذه الاعمال يشعر ـ ربما اكثر من اي ادب آخر ـ الصلة الوثيقة بين مجتمعات امريكا اللاتينية وبعض مجتمعاتنا العربية، ولعله ليس صدفة ان اول من ترجم ماركيز كان من سوريا وما اكثر السوريين الذين عاشوا في دول امريكا اللاتينية واصطبغوا بحياتها وربما صبغوا الحياة فيها ايضا، فأمريكا اللاتينية ـ على اية حال ـ تنحدر من ثقافة الاسبان التي عاشت في حضن الثقافة العربية اكثر من سبعة قرون في الازمنة القديمة ولا يمكن نسيانها او جحدها مهما تعددت الاسباب.

ان الجزء الاول من مذكرات غارسيا ماركيز شُرع في ترجمته على الفور فهناك حديث عن ترجمة المانية على وشك الظهور وكذلك انجليزية او قل امريكية الى جانب الفرنسية، ولعل مترجمي ماركيز العرب لم يفتهم هذا الخبر ولعلهم بالفعل اتفقوا مع ناشره الاسباني ان يشرعوا هم ايضا في ترجمة هذا الاثر الذي أثار العالم اجمع والذي راحت الصحف تتابعه في اكثر من دولة وأكثر من لغة.