خارطة طريق... أم وصفة انتحار؟

TT

مرة أخرى يبدو وليم بيرنز مساعد وزير الخارجية الاميركية وكأنه رجل مهمات الوقت الضائع في الشرق الاوسط. فمع عودة أرييل شارون من زيارته المثيرة للجدل، التي تم خلالها اقرار خطة التنسيق بين واشنطن وتل أبيب في موضوع توجيه ضربة الى العراق، كان بيرنز قد بدأ جولته في 12 دولة عربية.

العنوان الذي وضع في التداول، هو ان بيرنز يتولى شرح «خارطة الطرق الاميركية» لتنفيذ رؤية الرئيس جورج بوش المتعلقة بقيام دولة فلسطينية الى جانب الدولة الاسرائيلية كمدخل وحيد لحل أزمة الشرق الأوسط، على ما أعلن في 24 حزيران (يونيو) الماضي.

لكن كان من الواضح تماما قبل وصول بيرنز الى المنطقة، انه لا يحمل معه هذه المرة اشياء تختلف كثيرا عما حمله في الماضي. فباستثناء شعره الاجعد والكث وشاربه الكثيف الذي يعطيه ملامح شرقية الى حد ما، فإنه لا يحمل الا ملفات خالية تقريبا من اي عنصر يساعد في وقف التداعيات الناجمة عن مضي اسرائيل في تدمير عناصر التسوية، والقضاء على روح السلام في الشرق الاوسط.

آخر جولة قام بها بيرنز في المنطقة، كانت على ما يتذكر الجميع، لشرح الموقف الاميركي من مسألة الاصلاحات والتغييرات المطلوبة من السلطة الفلسطينية، واذا كان قد حاذر يومها لقاء الرئيس ياسر عرفات، فإنه أعلن سلفا هذه المرة انه لا يريد اللقاء معه، وهو ما يمثل استمرار واشنطن في الأخذ بوجهات نظر تل أبيب في هذا السياق.

وفي الواقع تمثل جولة بيرنز الوجه المكمل لزيارة شارون ومحادثاته مع جورج بوش. فإذا كانت هذه الزيارة قد تمت في ظل شعارات خادعة، تعمدت واشنطن ان تضعها في التداول، ومفادها ان بوش استدعى شارون ليكف يده عن التدخل في الموضوع العراقي، وذلك حرصا من واشنطن على المشاعر العربية، التي لا يمكن ان تهضم عملا عسكريا اميركيا ضد بغداد يشارك فيه الاسرائيليون، اذا كانت زيارة شارون تمت وسط هذا الجو، فإن جولة بيرنز تشكل طبيعة سعي واشنطن، الى الفصل بين المسألة العراقية والقضية الفلسطينية، بمعنى ان واشنطن تريد ان تقول للعواصم العربية، ان انشغالها بموضوع العراق، لا يعني انها تجاوزت قضية الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وانها احالت على النسيان رؤية بوش بشأن الدولة الفلسطينية.

لكن التدقيق في الوقائع والظروف الراهنة، خصوصا المسار الذي ترسمه سياسة دعم شارون، والتغاضي عن كل المذابح وعمليات التدمير والاقتحام التي ينفذها، لا توحي ولا لوهلة ان واشنطن هي فعلا في وارد الاهتمام بحل القضية الفلسطينية، أو بمجرد دفع الاسرائيليين في اتجاهات تفضي على الاقل، الى الانسحاب من الضفة الغربية ومناطق السلطة الفلسطينية تمهيدا لاستئناف المفاوضات.

إذاً يستطيع المرء ان يستنتج بسرعة ان بيرنز لا يمثل في جولته الفضفاضة الجديدة على الدول العربية أكثر من مقاول يحاول تسويق الخديعة، بعدما حاولت واشنطن اعطاء مؤشرات خادعة عن محادثات بوش ـ شارون.

ولكي يتبين المرء فعلا عناصر الخديعة هذه، ليس عليه الاّ ان يقرأ بقليل من التمعن التفاصيل التي نشرت قبل ايام عن محتوى خريطة الطريق الاميركية، التي ذكرتنا في الواقع بـ «غودو»، ربما لنقول انها خريطة طريق «غودو» الذي لا يصل ولن يصل اطلاقا.

تقول واشنطن ان بيرنز حمل معه الخريطة التي عرضت على شارون الاسبوع الماضي، والتي وصفها مسؤول كبير في واشنطن يوم السبت الماضي بأنها «مستوحاة من الاعلان الذي صدر عن اللجنة الرباعية، وهي تحاول توسيع الافكار الواردة فيه بعض الشيء».

هذا السياق يتعمد ويهدف الى الايحاء بوجود مباركة ضمنية من «اللجنة الرباعية». (اميركا ـ الاتحاد الاوروبي ـ الامم المتحدة ـ روسيا) لهذه الخريطة وقد قال بيرنز في محطته الثالثة في المملكة العربية السعودية ان وسطاء الرباعية احرزوا تقدما مهما في خارطة الطرق.. «واننا نعمل بجد مع شركائنا لتحديد عناصر معالم الطريق التي تترجم ذلك، اي الحل القائم على اساس دولتين»!

وبغض النظر عن كل ما يقال من تصريحات وتسريبات، فإن العناصر التي تضمنتها الخريطة، هي ثلاثة وقد اعطيت تواريخ محددة تشكل بالتالي، ثلاث مراحل:

الأولى تبدأ من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري الى أيار (مايو) من السنة المقبلة، والثانية تمتد من حزيران (يونيو) الى كانون الأول (ديسمبر) من السنة المقبلة، أما المرحلة الثالثة فتمتد من سنة 2004 الى 2005.

قصة المراحل هنا تعيد إحياء منطق «الاجراءات المتتابعة» بدلا من «الاجراءات المتلازمة»، وهذا يعني انها في شكل من الاشكال تضع تكرارا العربة أمام الحصان، وفي ترجمة اكثر وضوحا يمكن القول ان المرحلة الاولى بما تنص عليه انما تشكل تطويرا ميدانيا وعملانيا لفكرة «اسبوع التهدئة» التي ادت على ما يذكر الجميع، الى افشال «ورقة تينيت».

وقد كان لافتا قبل يومين مسارعة تل أبيب الى الاعلان «ان بوش لم يفرض الخريطة علينا، وهي مجرد مشروع ادرجت فيه المبادئ التي اقترحها الرئيس بوش (...) والمهم هو ان الوثيقة تتضمن مراحل وان الانتقال من مرحلة الى أخرى رهن تطبيق المرحلة السابقة».

على هذا الاساس، تم وضع العربة أمام الحصان. بمعنى ان المرحلة الأولى تضمنت كل ما يمكن اعتباره شروطا تعجيزية يتوجب على الفلسطينيين ان ينفذوها، وإلا كانوا مسؤولين عن افشال هذه الخطة (!) وفي الواقع ان تنفيذ بنود المرحلة الاولى سيقود الفلسطينيين الى واحد من أمرين: إما الانغماس في حرب اهلية، وإما ان يتحولوا رعايا اسرائيليين ببشرة سمراء!

ماذا على الفلسطينيين ان يفعلوا بموجب ما تتطلبه المرحلة الاولى والى حد ما الثانية من خريطة الطرق الاميركية؟

عليهم أن يدفنوا قتلاهم، وان يسارعوا الى دفن الانتفاضة واقامة حراسة اسرائيلية عليها. وعليهم ايضا ان يدفنوا مشاعرهم وجروحهم وان يبدأوا بنظم قصائد الغزل بقتلتهم وفي مقدم هؤلاء ارييل شارون وبنيامين بن اليعازر.

كيف؟

تنص المرحلة الاولى على متوجبات كثيرة يفترض ان تحوّل المناطق الفلسطينية جنة للديمقراطية المحروسة طبعاً بدبابات اسرائيل وأحزمتها الأمنية، وان تخلق حكومة جديدة تقود قوى أمن موحدة وحدوية، تضع نصب عينيها انجاز مهمة حيوية ترد في سياق النص الحرفي التالي: «تنشر القيادة الفلسطينية اعلانا تعترف فيه بصورة لا تحتمل اللبس بحق اسرائيل في الوجود بسلام وأمن، وتدعو الى الوقف الفوري للانتفاضة المسلحة وجميع اعمال العنف ضد الاسرائيليين في كل مكان، وتكف جميع المؤسسات الفلسطينية عن التحريض ضد اسرائيل».

ماذا يعني هذا الكلام؟

انه يعني ان على الفلسطينيين ان يتقدموا الى حرب اهلية بعيون مفتوحة، وثمة حساسيات متزايدة ونقاشات حامية متصاعدة تثير الهلع من امكان انزلاقهم الى صراعات داخلية. واذا حصل هذا الجنون لا سمح الله، فإن شارون بدلاً من ان يمضي في قتل الفلسطينيين فيخدش حياء واشنطن ويحرجها في زمن تتولى فيه ضرب العراق، يمكن ان يجلس سعيدا ويكتفي بمراقبة الفلسطينيين وهم ينفذون بحق أنفسهم ما ينفذه من الجرائم.

وليس المطلوب وفق النص أعلاه، وقف الانتفاضة وكل عمل عنفي ضد الاسرائيليين، بل وقف التحريض ضد اسرائيل، وهذا يعني ان على السلطة الفلسطينية الجديدة ان تقوم بتجريد رعاياها من الاحاسيس بالألم والقهر والغيظ وان تعلمهم ان الغضب من المساوئ وان الكرامة الوطنية من الرذائل، وان عليهم ان يسعدوا لجثث اطفالهم التي تمزقها الدبابات، كما يطلب منهم ان يشعروا بالرضى عندما تقوم المقاتلات والحوامات بالقاء القنابل فوق احيائهم وداخل اسرَّتهم، فهذا «زبيب الأحبة» وليس نارا أو حديدا، اما عندما تصل الجرافات لتدمير حقولهم ونسف منازلهم فعليهم ان يبشروا خيرا وان يرفعوا بيانات الشكر للاسرائيليين الذين يساعدونهم في «الزراعة» مثلا.

وماذا يعني وقف التحريض ايضا؟

انه يعني ان على الفلسطينيين ان ينكروا تاريخهم المجبول بالدم وان ينسوا 54 عاما من المذابح المفتوحة ضدهم، وان يحرقوا كل ما أنشد من الاشعار والقصائد التي تتحدث عن آلامهم الكبيرة، وان ينظروا الى الاسرائيليين بعيون جديدة لا ترى فيهم شيئا من المخالب او الانياب، ولا تلاحظ الدم القاطر من اصابعهم، ولا تميز السكاكين المشحوذة في ايديهم. عليهم ان يقدموا التحية بكثير من الود والامتنان وعرفان الجميل وان ينحنوا حتى تتقوس ظهورهم وتتقرح كرامتهم.

بعد كل هذا نصل الى المرحلة الثالثة، التي قد تشهد (ونشدد على قد) قيام دولة فلسطينية، مواطنوها اسرائيليون من اصول فلسطينية!!

ولا ندري اذا كنا في النهاية امام خارطة طرق أميركية أم أمام وصفة سريعة لانتحار الفلسطينيين؟!