الاستعمار والفقر

TT

هل ادى الاستعمار الى افقار الشعوب المستعمرة؟ لا احد يدعي بمثل ذلك، فزيادة السكان في معظم المستعمرات تشير الى زيادة وفرة الطعام وتحسن الاحوال. ولكن السؤال الذي يثار غالبا هو، ماذا لو؟ ماذا لو لم يتدخل الاستعمار؟ هل كان بإمكان المستعمرات ان تنمو وتزدهر بنسبة اكبر؟ كثيرا ما طرح هذا السؤال بالنسبة للهند. فعندما سيطرت شركة الهند الشرقية على البلاد كانت هناك بوادر قيام صناعة نسيج واسعة ربما تنمو وتصبح قاعدة لثورة صناعية على النحو الذي حصل في بريطانيا، ولكن اغراق اسواق الهند بالمنسوجات البريطانية الرخيصة وقمع الصناعة الهندية الوليدة قتل هذه الامكانية.

هذا واحد من الاسئلة الافتراضية العديدة.. لو ان..؟ لا احد يستطيع ان يحزر اليوم ما اذا كان بإمكان الهند تحقيق ثورة صناعية مشابهة لما حدث في الغرب. النقد الاساسي للاستعمار هو ما سمي بنهب الثروات الطبيعية للبلاد، النفط والمعادن والماس والمحاصيل الزراعية. تحصل الدولة الاستعمارية على الجزء الاكبر من الريع وتترك جزءا صغيرا فقط للمستعمرة. تدافع عن سلوكها هذا بقولها ان شركاتها هي التي اكتشفت ونمت هذه الثروات. ففي كركوك في العراق كان الناس ينظرون الى النار الابدية الخارجة من الارض بأنها بقية النار التي اضرمها نمرود لحرق ابراهيم الخليل عليه السلام. كانت شركة النفط هي التي صححت هذا الاعتقاد واعلمت العراقيين بالثروة الكائنة وراء تلك النار. يمكن تطبيق الشرع الاسلامي فيقال ان الشركة كانت بمثابة العاثر على لقطة.

نواجه الآن هذا السؤال الآخر: لو ان الاستعمار لم يكن في الوجود، هل كان بإمكان سكان الكونغو اكتشاف النحاس واستخراجه وتسويقه؟ وبالرغم من تحويل الشركة الجزء الاكبر من ريعها الى بلجيكا، فان قسطا من الريع بقي في البلاد بشكل اجور وخدمات واستثمارات ساهمت في تقدم البلد وتخفيف شأفة الفقر والتخلف. الحقيقة هنا هي ان المستعمرات استفادت من دخول الاستعمار ولكن ليس بالقدر العادل، وهو ما يمكن ان نقوله بنفس الدرجة بالنسبة للعمال الاوربيين حيال مستخدميهم الرأسماليين. قلما التزم احد بمعايير العدالة. المهم ان ندرك ان الاستعمار افاد المستعمرات اقتصاديا.

لم تنحصر الفائدة في الميدان الاقتصادي فقط. فالحصول على قوى عاملة جيدة وقوات امن يعتمد عليها وايضا لتسويق البضائع الغربية، اقتضى رفع المستوى الصحي والتعليمي والاجتماعي للسكان. لزم ايضا تطوير البنية التحتية، كالمواصلات والاتصالات واشاعة الاستقرار واحترام القانون واقامة ادارة كفوءة وتوطيد الأمن وحماية البلاد من الغزاة.

بالاضافة الى هذه التطورات العملية التي تطلبتها مصلحة الاستعمار كانت هناك ايجابيات مثالية انبثقت من الحضارة الحديثة، وعلى رأسها الغاء الرق. بعد ان كانت السفن البريطانية تنقل العبيد وتتاجر بهم في القرون الوسطى، تحولت بعد عام 1815 الى دور مطاردة السفن التي تحمل الرقيق وتنقذهم منها، كما حظر الاستعمار كثيرا من الاعراف اللاانسانية كحرق الارملة في الهند مع زوجها الميت. في مقابل ذلك ارتكب المستعمرون جرائم مثل تسويق المخدرات للصين والعبيد لامريكا ونهب الاسبان لثروات امريكا اللاتينية وتدمير حضاراتها وتقتيل وتشريد هنود امريكا، وبالنسبة لنا وعد بلفور، علما بأنه لم يقصد تحويل فلسطين الى دولة يهودية. نحن الذين مهدنا لذلك بسوء خياراتنا.

هل قسم الاستعمار اوطاننا؟ غدا موعدنا مع هذا السؤال.