عندما يطول الليل الفلسطيني

TT

من المنطقي ان لا يتقبل الناس استمرار المسؤول الفاشل في موقعه، ولكن الوطن العربي يشذ في هذه الحقبة عن المنطق. في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كان النقد منصباً على بعض الدول العربية لكثرة الانقلابات والتغيير فيها، واعتبر ذلك من اسباب التخلف والازمات المتنوعة المستعصية فكرياً واقتصادياً... الخ. اما اليوم فالازمات تستفحل حتى في مناخ الديمومة السياسية. هذا الوضع يشبه كاريكاتوراً لرئيس شركة تؤكد كل الاحصائيات ان مبيعاتها تتناقص، ونفقاتها تتزايد، ومشاريعها التطويرية معدومة، وبالتالي اسعار اسهمها اصبحت في الحضيض، ولكن المؤشر الوحيد الصاعد دوماً هو راتب الرئيس ورواتب مجلس الادارة.

اذا نظرنا الى الوضع الفلسطيني عبر العقود الماضية نجد الامور تكرر ذاتها، وحجم الخسارة الذاتية يتعاظم من يوم الى اخر بدون تغيير ذاتي أو انقلاب على الوضع او أي استيعاب ملائم ومجد للمتغيرات، ناهيك من التطوير طبعاً. القادة هم ذاتهم، ولا يغيب احدهم الا بطلب رباني، الاسلوب العسكري القتالي لا يتغير إلا الى الاسوأ، أي صمود اقل، واستسلام اسرع، وتعامل رسمي مع العدو وتخوين المعارضين، وعدم اختراع أي نافلة او احتراز أي سلاح رادع، وتشدق عريض واستعراض لاوهام تبرر افعال العدو الارهابية كدفاع عن ذاته. هكذا تم تخريب الاردن في السبعينات، ولبنان بعده، والآن تتكرر القصة في الضفة والقطاع!

يقول التاريخ ان تطوير الرشاش بدأ بعد اختراع البندقية واستعمالها لاربعمئة سنة، ولكن بعد استعماله لعدة عقود وفي حروب عدة، استمر الجنرالات في البلاد المصنعة يأمرون الجنود بالخروج من الخنادق لمواجهة الرشاشات لتحصدهم بالالاف. كان الجميع يعرفون الرشاش وتأثيره، ولكنهم واصلوا استخدام نظرية حربية اقدم من هذا الاختراع مما تسبب في قتل مئات الالوف من جندهم.

اصحاب هذه العقلية هم الذين يتسببون في القتل والتدمير وعقد الاتفاقيات الضارة، ولا يتحملون أي مسؤولية تجاه النتائج الكارثية، فالطرف الاخر هو المخطئ باستمرار. واذا بلعنا نظرية خطأ الطرف الاخر، ألم يحن الوقت للتغيير لوجه الله تعالى؟

العقود تمر، وقوافل الشهداء والضحايا والدمار تتكاثف، والخسارة السياسية للحقوق من الماضي والحاضر تزداد، وآفاق المستقبل تضيق، ولكن للفلسطينيين اكثر من برلمان لا يغير في عضويتها سوى الموت، ولجنة تنفيذية ابدية، وحكومة مطيعة مبنية على عنصر الولاء للرئيس فقط... وبدل تولد معارضة ايجابية نجد الشعب يصفق لمسلحين ومعارضة ثبت بالتجربة المتكررة انها تجر الاوضاع الى مراحل ما قبل التخلف الحاكم الحالي، فيا لعفو الله.

رئيس الوزراء الاسرائيلي هو المسؤول، طبعاً، لكن ما يساعد شارون في فوضاه التدميرية المخططة، الى جانب الادارة الاميركية طبعاً، هو الشلل السياسي الفلسطيني ممثلاً في رئاسة السلطة. الضغوط الاسرائيلية والاميركية على عرفات جعلت الشعب والامة تلتف حوله، ولكن بدون منحة صكاً مفتوحاً. لقد منح البرلمان الفلسطيني المجلس التشريعي تخويلاً لعرفات بتشكيل حكومة جديدة بعد رفض السابقة، وكان الاجدر بالرئيس تلبية مطالب البرلمانيين المعبرة عن القليل مما يريده الشعب، وبالتالي اختيار حكومة جديدة انتقالية تمهد للانتخابات وتقدم للشعب رموزا ومعاني جمة عبر نوعية افرادها. حكومة تناسب الوضع السياسي الدولي والمحلي الجديد، برموز وطنية مكافحة معتقلة الآن، وبعض جيل شبان الانتفاضة، للنساء نصيب كبير فيها وتضم فلسطينيين من خارج الارض المحتلة ايضاً، ومن سكان العالم الغربي. وكان بامكان الرئيس في كل الاوقات الاستجابة لرغبة الشارع في تغيير الاسلوب في الحكم، مثل تعيين رئيس وزراء ونائب للرئيس، والاعتماد على خزانات فكرية والاستجابة لتوجيهاتها قدر المستطاع.

حتى الان تتصرف السلطة وكأن التغييرات المطلوبة كلها طلبات اميركية غربية وليست من البرلمان! الاصح ان الاصلاح ليس مسعى اسرائيلياً او اميركياً، وعلى السلطة التصرف تجاهه كمطلب شعبي فلسطيني يستحق النضال من اجله بعيداً عن البهلوانات القديمة، وبما يتناسب مع التدهور اليومي الكارثي الذي يحط على الشعب الفلسطيني.

كان البرلمان قد وجه تهم فساد الى عدة وزراء بالاسم، ومع ذلك تم الاحتفاظ ببعضهم في التشكيلة الجديدة. وكان من اسباب عدم منح الثقة للحكومة السابقة ان بعض المسؤولين لديهم صلاحيات مزدوجة! رئيس البرلمان، وعدة وزراء هم ايضاً اعضاء وعماد الفريق المفاوض، وهذا تناقض قانوني ومنطقي! وهناك وزراء هم اعضاء في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير المفترض انها الهيئة القيادية والمشرفة على الحكومة! والحكومة اخذت بالتمثيل التنظيمي وبأدوار لمنظمات قزمية لا يملأ اعضاؤها حافلة للركاب. ذلك وغيره قيل للرئيس من برلمانيين ومن غيرهم وعلناً، غير انه يصر على اسلوبة في تقليص الصلاحيات في ايد قليلة مطيعة، والفلسطينيون لا يعرفون الى أي مدى يمكنهم التحدي الداخلي في ظروف القهر الاسرائيلي التي تتطلب منهم الوحدة والقرار المركزي. بمعنى آخر، ما يتم من الرئيس والوزراء المرفوضين علناً وغير المسقيلين، هو ابتزاز صريح للظروف والمشاعر بدون ادنى روح من المسؤولية.

حسب احصائيات الرئيس عرفات هناك ثمانية ملايين فلسطيني، اين الضرورة اذاً في التمسك المتكرر بالافراد ذاتهم؟ هل حرروا ثلاثة ارباع البلاد ولديهم خطة فعالة لتحرير الربع الاخير؟ ألا يوجد في الشعب الفلسطيني غيرهم من المؤهلين، ام ان رئيس السلطة لا يجد دزينتين من الذين يبادلهم الثقة؟ لقد قيل للبرلمانيين اقبلوا هذه الحكومة حتى لا تنصروا مطالب شارون بإبعاد الرئيس! وكان الاجدر الاستجابة التامة للمطالب وبالتالي تأهيل المجتمع لمواجهة اشرس حملة قمع قادمة قريباً اذا شكل شارون حكومة ليكودية متطرفة كما هو متوقع.

اذا كان كل شيء يطالب به الاميركيون والاسرائيليون سيقابل بالرفض الفلسطيني والتخوين لمن فكر او سيفكر به من الفلسطينيين، فإن طريق شارون سيبقى ممهداً للقضاء على بقايا المجتمع الفلسطيني. سيواصل شارون اذاً المطالبة بازالة الرئيس عرفات، وبالاصلاح، والشفافية، والديمقراطية، وبالانتخابات، ووقف العمليات الانتحارية، واشكال قمع جديدة. لا مناص من مواصلة صنع خسائرنا الذاتية حتى نتعلم اهمية الاستفادة من التجارب وبالسرعة القصوى، وفي مقدمتها التغيير والتجديد والمحاسبة الفورية. عندما ننتخب او نغير خمسة رؤساء جدد ومائة وزير وألفي برلماني اثناء العقدين القادمين، سنكون قد اقتربنا من الحل.

التبلد الذهني القيادي والطاعة العمياء للجنود وللشعوب ليسا من صفات امم دون اخرى، لكن تحضر الامم يقاس بمدى وسرعة تعلمها من تجاربها. اثناء الحرب العالمية الاولى كانت الطائرة مخترعاً حديثاً بحاجة الى تحديد دور لها، واعداد طيارين ومطارات وصيانة وغير ذلك. مع نهاية تلك الحرب كان الانجليز قد خسروا اربعة عشر الف شاب طيار، ثمانية الاف منهم ماتوا اثناء التدريب! وعندما وصل الامر للسياسيين في البرلمان وضع الوزير المسؤولية على حداثة سن واندفاع الطيارين. اما في المانيا فقد كان اجمالي الخسائر من التدريب والحرب لا يصل الى ربع عدد الطيارين. وعندما غير الانجليز فلسفتهم الفاشلة واستعملوا برنامج تدريب ملائم وكان معروفاً سلفاً، توصلوا الى نتائج مشابهة للالمان والفرنسيين.