الانقلاب الديمقراطي

TT

كانت الانقلابات العسكرية طوال القرن الماضي، في الكثير من بلاد العالم الثالث وسيلة التغيير السهلة، أو قل غير المركبة، لانها ـ مع ما يصاحبها من الاجراءات السرية لم تكن تحتاج الى أكثر من اقتناص الفرصة المواتية، كغضب الجماهير على السلطة القائمة، أو مجرد تخليها عن حمايتها والحماسة لها، أو حيادها بين القوى اللاعبة في القمة، وهو ما حدث في أكثر من تجربة في العالم الثالث، ومنها التجربة المصرية بعد وفاة جمال عبد الناصر، أو أن يكون الانقلاب يهدف الى اسقاط سلطة ديمقراطية، وتحول ثوري قائم، بما يستتبع ذلك من قوة قامعة بالغة العنف والقسوة، كما حدث على يدي القائد العسكري بينوشيه ضد الرئيس الليندي في شيلي.

وغالبا ما حاصرت الانقلابات العسكرية النظام العالمي الثنائي القطبية، إذ كان تغيير السياسات وجذب هذه الدولة أو تلك الى المعسكر الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة أو المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، مسألة عاجلة وضرورية ومؤكدة في نفس الوقت، وكان الانقلاب العسكري بسبب طابعه الديكتاتوري حيث تتركز سلطات القرار في قائد الانقلاب، مسنودا لأحد طرفي النظام الثنائي القطبية بحكم عملية الاستقطاب الداخلة في استراتيجيات كل من القوتين العظميين.

وبعد انتهاء الحرب الباردة وبروز قوة عظمى عالمية واحدة هي الولايات المتحدة، دخلت في المعادلة اعتبارات أخرى، خاصة بعد أن ظهر «الإرهاب» كعدو جديد في مقابل عدو الحرب الباردة القديم، الاتحاد السوفياتي السابق والمعسكر «الاشتراكي» بشكل عام، إذ أصبحت مساندة النظام «الجديد» في هذه الدولة أو تلك تقوم على أساس موقف السلطة القادمة، أو المطلوب قدومها، من «الإرهاب». ولأن التحول الديمقراطي ليس من المؤكد ان يأتي بالقوى الديمقراطية الى الحكم، بل قد يأتي بالقوى الدينية، أو ثقافة «الإرهاب»، كما حدث في أكثر من تجربة في عالم الشرق الاوسط، بما في ذلك تركيا وإيران فضلا عن الجزائر والسودان، فإن الانقلاب العسكري هو الضامن ضد قدوم مثل هذه الاتجاهات، أو ما يسمى ـ حسب وضع السلطة بالنسبة للدولة العظمى الوحيدة ـ بثقافة الإرهاب، وهو ما حدث في باكستان، وهو ما يحدث في معادلة أكثر تعقيدا في افغانستان، وما يحدث بالنسبة لقمع الاتجاهات الاسلامية في تركيا، سواء عن طريق قوة الجيش كعنصر أساسي في التركيبة السياسية أو نصوص دستورية تزعم استنادها الى مبادئ الدولة المدنية ذات الجذور العلمانية والمفاهيم الديمقراطية.

في هذا العالم المركب الذي يدعو الى الديمقراطية من جانب، ويدعو الى الديكتاتورية في الجانب الاخر، ومن نفس القطب الاوحد الذي يتدخل في الحرية السياسية في كل انحاء العالم، تختلط المفاهيم وتضطرب الاحداث ويحدث الكثير من الاخطاء. فبعد سقوط سوهارتو في اندونيسيا كان من الواضح ان غالبية الجمهور تؤيد مجيء حكومة ديمقراطية ذات بعد علماني بقيادة السيدة ميجاواتي وحزبها الديمقراطي والوريث لاتجاهات سوكارنو والدها الذي اسقطه انقلاب سوهارتو العسكري حسب سياسة الاستقطاب اثناء الحرب الباردة. ولكن الاستراتيجية الامريكية لم تكن متأكدة من اتجاهات الحزب الديمقراطي العلماني الذي تقوده السيدة ميجاواتي، وريثة زعامة كاريزماتية لم تكن حليفة للولايات المتحدة، وفضلت ان تأتي برئاسة تنتمي الى «الاسلام السياسي» على ان تكون ميجاواتي نائبا للرئيس، وهي توليفة لعب الجيش الاندونيسي، الذي كان الركن الركين لقائده السابق سوهارتو، دورا رئيسيا فيها. على انه لم يمض الا وقت قليل حتى تبين عبث، أو قل خطأ، التركيبة الجديدة، وهو ما عكسته مظاهرات طلبة الجامعة والشارع الاندونيسي. والواقع ان هذا التناقض في السياسة الامريكية، ادى الى نمو تيارات «الاسلام السياسي» واضعاف التيار الديمقراطي الذي تقوده ميجاواتي، والذي لم يقبل بالاطاحة بالرئيس السابق عبد الرحمن واحد على الرغم من انه ـ على الاغلب ـ كان نصيرا للاسلام السياسي، اكثر منه زعيما سياسيا له. واليوم يتحرك هذا التيار الديني في اطار سياسة العنف الدموية. والتفجير الذي حدث في جزيرة بالي بداية مؤشر خطير نراه في اكثر من مكان في العالم الاسلامي، وها نحن نرى الحماقة التي ارتكبت بالنسبة لرهائن الشيشان في موسكو، والتي راح ضحيتها اكثر من مائة قتيل، وها نحن نرى ايضا الاغتيالات الموجهة ضد امريكيين في الكويت ثم في الاردن، بالاضافة الى حوادث القناص الامريكي في مدينة واشنطن وحواليها، والمنسوبة حقا أو شكلا الى امريكي اسود مسلم.

وفي هذا الجو المختلط الرؤى تُستخدم الرؤية المزدوجة للشيء الواحد. فالسلاح النووي ـ الذي لا يملكه في الواقع العراق وفقا لشهادة مفتشي الامم المتحدة ـ تطلب امريكا ضرب العراق من اجله، ليس لانه موجود، بل لامكانية وجوده بعد ثلاثة اعوام، أو اكثر أو اقل، وكذلك الامر بالنسبة للاسلحة الكيماوية أو الميكروبية بحجة انه استخدمها ضد شعبه الكردي ـ وهذا حقيقة بطبيعة الحال ـ بينما لم يفعل الامريكيون شيئا ضد روسيا لاستخدامها الغازات السامة منذ ايام ضد المختطفين الشيشان، أو ضد كوريا الشمالية، دعك من الهند وباكستان واسرائيل التي تخوض حرب ابادة ضد الفلسطينيين، حتى هؤلاء الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية. ولقد قرأت اجابة غريبة ومثيرة للدهشة من جانب السفير الامريكي في القاهرة نشرت في صحيفة مصرية، فرق فيها بين امتلاك اسرائيل للاسلحة الفائقة الدمار و«احتمال» امتلاك العراق لها، ذلك لان السلطة العراقية قد استخدمت الغازات السامة ضد شعبها الكردي. وهي اجابة لا يقتنع بها احد وتترك الناس مهما تكن قناعاتهم في صالح امريكا في حيرة بالغة. ومن هذا الموقف المتناقض، تنمو بذور القلق والعداء حتى نرى الانفجارات العشوائية تحدث بين يوم وآخر في كل مكان.

ليس الدور الامريكي غير الاخلاقي في السياسة الخارجية، والقائم على التحيز وازدواجية الرؤية هو السبب الوحيد، اذ توجد اسباب اخرى مسؤولة عن تفاقم الارهاب. ومع كل ما كتب حول «ثقافة» الارهاب، فهناك رؤية غالبة، خاصة في المجتمع الامريكي وبعض المجتمعات الاوروبية، تعتقد ان الحركة الارهابية هي نتيجة للثقافة الاسلامية المهيئة للارهاب بطبيعتها. وهذا سبب آخر لزرع الفتنة بين المسلمين سواء كانوا من دعاة الحكومة الدينية أو العلمانية أو من اصحاب «الرؤية الاسلامية» المعتدلة، البين بين كما يقولون، أي المنزلة بين منزلتين كما عرف في التراث الفلسفي أو الكلامي القديم.

والحق ان الذين كتبوا أو تحدثوا، خاصة من الامريكيين، عن الثقافة الاسلامية ودمغها بالارهاب، ابتعدت بهم الطريق عن الاسباب الحقيقية المفترضة للارهاب. وبسبب احادية النظر، وربما لدوافع مرضية سيكولوجية اكثر منها فكرية أو ثقافية، راحوا يقتنصون عبارة من هنا أو هناك، مقطوعة من السياق بالطبع ليؤكدوا لانفسهم ان هذا الدين مصدر أو وعاء الفكر الارهابي الانتحاري وغير الانتحاري، متجاهلين الارهاب الذي يحدث من خلال تفسيرات عقيمة اخرى للديانة المسيحية. ونحن نرى ذلك في اكثر من موقع الآن، سواء في القارة الاسيوية أو الاوروبية، في اسبانيا وانجلترا وغيرهما من الدول ذات الثقافة المسيحية أو الهندوسية أو البوذية.

ولكم تساءلت وانا استمع الى مداخلات المفكرين العرب والمفكرات في مؤتمر عن «المرأة والابداع» عُقد هذه الايام في القاهرة، اذا كانت الاوراق المعروضة تتحدث ـ في غالبيتها العظمى ـ عن الحريات والديمقراطية وتؤمن ايمانا قاطعا بأن صلاح الامة العربية هو في المضي فورا الى تحقيق الديمقراطية بأبعادها المختلفة، خاصة من حيث حرية الفكر والاعتقاد والتعبير والنقد وحق الاختلاف وتقبله باعتباره اساس التقدم، اذا كانت المداخلات تتحدث بهذا التأكيد الذي يوشك ان يكون اجماعا، فما الذي يحدث في الشارع العربي، وكيف لا تصله اصداء هذه الاحاديث وكيف لا تقنعه حججها وبراهينها، ويمضي في غليانه المكتوم أو غير المكتوم الذي يظهر بين وقت وآخر في انفجار هنا أو هناك؟

لقد تصادف ان جلس الى جواري، في احدى جلسات المؤتمر، رجلان شعرت من توترهما وحركاتهما العصبية أنهما يعتقدان ان الحديث عن الديمقراطية والحريات هو حديث يواري ـ في حقيقته الخفية ـ نزوعا ضد الاسلام، وان كل هذا الكلام الذي يبدو انسانيا أو منطقيا، ما هو الا تجديف خفي وخبيث ينبغي وقفه بكل الوسائل. وفجأة قام الرجل الجالس الى يساري واندفع نحو منصة الرد وهاجم بعنف مداخلات المتحدثين دفاعا عن الدولة الدينية التي يعتقد انها من اركان الاسلام، واعتبر ان كل ما قيل من حديث هدفه الوحيد هو منع قيام هذه الدولة، ولاحظت وهو ينطق بعباراته العصبية بصوت مرتعش بالغضب، ان زميله الجالس الى يميني يتقلب بجسده وبصوته الذي يحبسه بصعوبة تجاوبا وحماسة لما كان يقوله صاحبه.

نعم، لم يجد كلامه تجاوبا من الصالة، إذ يبدو ان الجمهور الذي كان يأتي ليشهد هذه المداخلات ويعترض عليها قد قل حضوره عن السنوات السابقة. لكن ماذا عن الشارع؟

الحق ان غالبية الاوراق التي قرئت لم تكن منخلعة من ثقافتها الاسلامية، التي لم يدرك بعض خصومها انها تراث متوارث حتى في جينات افراد المجتمع منذ اكثر من الف واربعمائة عام، وان ما يدور من فكر اليوم يتحرك على خلفيات هذه الثقافة ذات المنحى العالمي والعقلاني، وانها مثل أي ثقافة معاصرة ذات أوجه متعددة، وسواء كان الشخص العائش في مجتمع اسلامي مسلما أو مسيحيا أو يهوديا، أو أي من دين آخر، فانه في الحقيقة، واعيا أو غير واع، يتحرك ويفكر فوق هذه الارضية الاسلامية التي تشربها من طفولته حتى شيخوخته.

على ان نزعة التطرف الديني لم تبحث بشكل صحيح، سواء من جانب السلطات المحلية أو العالمية، واعتقد انها حالة سيكولوجية وليست حالة فكرية أو دينية. ومن يراقب الشخصيات التي صدر عنها فعل التطرف يلاحظ انها تتحرك مشحونة بكم هائل من الانفعال غير المنضبط، وفي حالة هياج قصوى ليس من الضروري ان يعبر عنها بالجسد، اذ غالبا ما يكون الفعل الارهابي الجسيم هو التعبير عنها، وربما كان مصدرها هو الشعور بالتهميش والاستلاب الناتج عن الإبعاد والنفي الذي تمارسه السلطات الديكتاتورية على افراد مجتمعها، بحيث لا يسترد الشخص المهمش احترامه لنفسه الا بنفيه لهذه السلطة القامعة، ولجوئه الى الدين هربا من الاستلاب المرير، وهو بالتدين المتطرف يعتقد انه يتعالى على السلطة التي همشته وتجاهلته ويتجاوزها، وبهذا التجاوز تصبح في نظره سلطة مارقة ينبغي ضربها وسحقها ان امكن.

واذا كان هذا التمرد يحدث بالنسبة للسلطة المحلية ذات الطابع الشمولي المفتقر الى المشاركة الديمقراطية فانه يحدث ايضا بالنسبة للسلطة العالمية التي يشعر بانها لم تهمشه أو تستلبه كفرد فقط بل كعضو في امة هي امة الاسلام. وهكذا يصبح الطريق مفتوحا الى الارهاب الدولي، ليس بسبب الاعتقاد الديني بل بسبب المرض النفسي الاجتماعي الناتج عن الاستلاب والذي يتخذ الجوانب الخرافية أو غير العقلانية في موروثاته من حركات الاسلاف الدينية، التي كانت هي ذاتها ردود افعال على سياسات قمعية. في مثل هذه الحالة من الاضطراب النفسي الاجتماعي يصبح القمع السياسي، سواء من القوى الاقليمية أو العالمية مصدر تغذية وتفاقم للمرض.

ان ما تمارسه بعض القوى المحلية أو العالمية من اخطاء سياسية بالغة الخطورة، هو السبب المباشر لكل ما نشهده من توترات وانحرافات، وليس من سبيل الى ترقية الا برفع القمع الدولي والمحلي واعادة الامور الى شكلها الطبيعي، وربما كانت التحولات الكبرى في عالم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات مسؤولة عن سرعة ظهور وتفشي الاستلاب كمرض نفسي اجتماعي في صورته العالمية.

واذا كان الامر كذلك، وهو كذلك كما اعتقد، فما الجدوى من تغيير مناهج التعليم أو الخطاب التنويري أو المقارعة بالحجج العقلية؟