صعود الامبراطوريات وسقوطها

TT

من اعظم العلوم واخطرها في رأيي علم يدعى فلسفة التاريخ. وهو العلم الذي يتأمل في مسيرة التاريخ البشري ويحاول ان يستنتج منه الدروس والعبر على هيئة قوانين علمية او حتمية الى اقصى حد ممكن، كما انه علم يدرس صعود الحضارات وافولها منذ اقدم العصور وحتى اليوم، وما هي العوامل التي تؤدي الى صعودها والعوامل التي تؤدي بعد فترة قد تطول او تقصر الى انحدارها وسقوطها.

ومن اهم فلاسفة التاريخ ابن خلدون في الجهة العربية الاسلامية، وجان جاك روسو، او كانط او هيغل او اوغست كونت او ماركس او نيتشه... الخ، في الجهة الاوروبية، ويمكن ان نذكر في العصر الحديث اسماء ريمون آرون في فرنسا او بول كندي وكسينغر او برزنسكي، وحتى صموئيل هانتنغتون في اميركا. وقد تعاقبت الامبراطوريات او القوى العظمى وراء بعضها البعض على سطح الارض منذ اكثر من ألفي سنة وحتى اليوم. وختمت اخيرا بالامبراطورية الاميركية التي تهيمن علينا حاليا.

ففي البداية كانت هناك الامبراطورية الرومانية، فالصينية، فالمغولية، فالاسبانية التي هيمنت حتى منتصف القرن السابع عشر وبعدها حلت الامبراطورية الفرنسية التي هيمنت حتى عام 1815، تاريخ سقوط نابليون في معركة واترلو الشهيرة، ولو ان نابليون نجح في مشروعه لكانت اوروبا كلها قد اصبحت ذات تابعية فرنسية. وبعدئذ جاء دور الامبراطورية الانكليزية التي هيمنت على العالم ومقدراته حتى نهاية الحرب العالمية الاولى، بل حتى نهاية الثانية بشكل ما، ولم تكن الشمس تغرب عن ممتلكاتها او اراضيها.. ولكنها سقطت في نهاية المطاف وتحجَّمت. على هذا النحو تعاقبت الامبراطوريات او القوى العظمى ـ وراء بعضها البعض من دون ان تستطيع اي منها ان تستمر الى الابد.

ولكن الشيء الجديد في الوضع العالمي الراهن هو انه لاول مرة في التاريخ تظهر امبراطورية شمولية يمكن ان ندعوها بامبراطورية الامبراطوريات: اي الولايات المتحدة الاميركية. فالامبراطورية الرومانية على عظمتها واتساعها لم تكن تشمل العالم كله وانما فقط حوض البحر الابيض المتوسط وحواشيه. والدليل على ذلك ان الامبراطورية الصينية كانت متزامنة معها تقريبا وتسيطر على كل ما حواليها في آسيا، وقل الامر ذاته عن بقية الامبراطوريات التي تعاقبت على التاريخ بما فيها الامبراطورية الانكليزية. وحدها الامبراطورية الاميركية وبدءا من عام 1991، تاريخ انتصارها في حرب الخليج وانهيار الكتلة الشيوعية، اصبحت تهيمن على الكرة الارضية بأسرها. وهيمنتها تشمل كل القطاعات من عسكرية وتكنولوجية واقتصادية وسياسية وحتى ثقافية.

لم يشهد تاريخ العالم قوة عظمى بمثل هذا الجبروت. فأساطيلها موجودة في كل بحار العالم ومحيطاته من دون استثناء وتستطيع ان تتدخل عسكريا في زوايا العالم الاربع. ومدخولها الاقتصادي عام 1950 كان يعادل نصف مدخول العالم كله، ولكنه اصبح ثلاثين بالمائة فقط الآن. وهو رقم ضخم جدا إذا ما قسنا عدد سكانها بعدد سكان العالم (280 مليونا بالقياس الى ستة مليارات من البشر..).

وبالتالي فاميركا في جهة، والعالم كله في جهة اخرى، يضاف الى ذلك ان تفوقها التكنولوجي صارخ حتى بالنسبة لبلدان متقدمة كأوروبا الغربية واليابان. ونقصد بذلك التكنولوجيا المدنية والعسكرية في آن معا. واما عن تفوقها الثقافي فحدث ولا حرج!

فالبرامج الاميركية تغذي ثلاثة ارباع السوق العالمية في ما يخص الافلام السينمائية او المسلسلات التلفزيونية! وقد وصل الامر بالفرنسيين الى حد اتخاذ تدابير سريعة من اجل حماية ثقافتهم ولغتهم وصناعتهم السينمائية. فقد خافوا على انفسهم من الانقراض امام هذه الهجمة الثقافية الجارفة. فمن يستطيع ان يصمد امام السينما الاميركية؟

ولكن على الرغم من كل ذلك فإن اميركا تعرف ان هيمنتها لن تدوم الى الابد. ففلسفة التاريخ او قوانينه تثبت لنا ان ذلك امر مستحيل. وبالتالي فالمسألة التي تقلق كبار الاستراتيجيين في واشنطن هي التالية: كيف يمكن ان نحافظ على هذه الهيمنة الى اطول فترة ممكنة؟ كيف يمكن لنا ان ننظم شؤون العالم بطريقة تناسب مصالحنا حتى بعد ان تنتهي هيمنتنا الشمولية او المطلقة على العالم؟

عندما يلقي الخبراء الاستراتيجيون الاميركان نظرة سريعة على خارطة العالم يجدون الحقيقة التالية، وهي ان مصير العالم سوف يحسم على الرقعة الاوروبية ـ الآسيوية. وهي الرقعة التي تضم القوى العظمى او المرشحة لان تكون عظمى اثناء القرن الحادي والعشرين: اي اوروبا الموحدة، ثم روسيا، ثم الصين، ثم اليابان، ثم الهند وربما اندونيسيا.. وهذه القوى لو توحدت تحت زعامة واحدة لهزمت اميركا فورا. ولكن هذا مستحيل بالطبع. فأوروبا هي الاقرب حضاريا الى اميركا، بل ان اميركا هي بنت اوروبا كما كان يقول الجنرال ديغول.

يضاف الى ذلك ان 75% من سكان العالم موجودون في هذه الرقعة الشاسعة الواسعة التي تشمل اوروبا وآسيا الشرقية. وبالتالي فإن الهيمنة عليها تعني التحكم بمصير العالم. ولا ينبغي ان ننسى ان معظم ثروات العالم من معدنية وبترولية وغازية وسوى ذلك موجود في هذه المنطقة ايضا. وبالتالي فإن اميركا تخطط استراتيجيا على النحو التالي: ينبغي ان تطيل امد هيمنتها على المنطقة الاوروبية ـ الآسيوية (اي على العالم كله في نهاية المطاف) الى اقصى حد ممكن. والبعض يقول بأن هذه الهيمنة سوف تستمر ثلاثين سنة على الاقل. ولكي تستطيع اطالة هيمنتها فإن اميركا لن تسمح لأي دولة بأن تكبر اكثر مما يجب. وذلك لأن الصين مثلا اذا ما قويت جدا فقد تسيطر على القارة الآسيوية كلها وتهدد اميركا فورا. وقل الأمر ذاته عن روسيا او اليابان او حتى الاتحاد الاوروبي ذاته.

وبالتالي فالاستراتيجية الاميركية سوف تلعب نفس اللعبة التي لعبتها انكلترا في القرن التاسع عشر. بمعنى آخر فانها سوف تهدد هذه القوى الكبرى ببعضها البعض لكي تحجمها كلها ولكي تظل هي الحكم الذي يلجأ اليه الجميع في نهاية المطاف.. وهكذا تظل هي المهيمنة على الجميع. على هذا النحو تستطيع ان تطيل أمد هيمنتها حتى عام 2030 او ربما 2050 على اكثر تقدير.

وبعدئذ سوف تنتهي الهيمنة الشمولية او المطلقة لدولة واحدة على العالم كله. ولهذا السبب فإن الخبراء يعتقدون ان اميركا سوف تكون آخر الامبراطوريات. بعدها سوف ندخل في عالم متعدد الاقطاب، عالم تهيمن عليه عدة مراكز لا مركز واحد. وبالتالي فالنصف الثاني من القرن الحادي والعشرين ـ اذا ما صدقت نبوءات فلاسفة التاريخ ـ سوف تهيمن عليه الصين واليابان وروسيا والهند واوروبا الموحدة، واميركا بالطبع، ولكنها عندئذ سوف تكون قوة من جملة قوى اخرى لا القوة الغالبة او الشمولية.

ما هي الاسباب التي ستؤدي الى انهيار الامبراطورية الاميركية؟ انها نفس الاسباب التي ادت الى انهيار الامبراطوريات السابقة كلها. وهي داخلية وخارجية، اما الداخلية فهي ظهور امراض معينة تصيب جميع الحضارات عندما تصل الى الذروة وتنتصر. فعندئذ تتراخى عصبيتها كما يقول ابن خلدون، وتستسلم للسهولة والملذات والشهوات.. وقد ابتدأ رجال السياسة والمفكرون في اوروبا واميركا يخشون من هذا الانحراف الاخلاقي الخطير الذي ينخر في مجتمعاتهم. فعدد السكان في تناقص مستمر في معظم دول الغرب المتقدمة لأن فلسفة المتعة او الشهوة الحسية هي المسيطرة على الجميع تقريبا ولا أحد يفكر في انجاب الاولاد وانما في زيادة المتعة.. وظاهرة الشذوذ الجنسي في حالة انتشار وتوسع وقد تهدد اسسس المجتمع كله اذا ما زادت عن حد معين. وقل الامر ذاته عن تعاطي الكحول والمخدرات وظاهرة العنف والجريمة وسوى ذلك من الاشياء التي تدمر الصحة الجسدية والعقلية في آن معا. فالانسان في الغرب يعتقد ان من حقه ان يجرب كل شيء لكي يستمتع دائما بأشياء جديدة لم يكن يعرفها من قبل، وهذه لعبة جهنمية لا نهاية لها.. وبالتالي فلم تعد هناك من قيم ضابطة للسلوك او التصرف. نقول ذلك وبخاصة بعد انحسار القيم الدينية او الروحانية عن سطح المجتمعات الغربية. وكل تحذيرات البابا يوحنا بولس الثاني ونصائحه تذهب هباء ولا أحد يستمع اليها.. بل انهم يسخرون منه ومن عقليته «القديمة».

واما العوامل الخارجية فهي ظهور قوى اخرى كما قلنا ورغبة الشعوب الجديدة ذات الدم الساخن في دخول التاريخ. فالشعب الذي لم يجرب نفسه بعد او لم يحقق ذاته بعد، يكون عادة تواقا الى دخول حلبة التاريخ وصنع المعجزات. واما الشعوب الهرمة في القارة العجوز (اوروبا) فقد شبعت من صناعة التاريخ وملت حتى من الحضارة والتقدم والرفاهية والترف.. فماذا يمكن ان ترى اكثر مما رأته او عرفته؟.. وهذه هي مسيرة التاريخ: يوم لك ويوم عليك. وربما كان في ذلك بعض العزاء للمهزومين والمقهورين.. فالشعوب الصينية والهندية والآسيوية والافريقية والعربية والاسلامية، تريد ايضا ان تدخل التاريخ وتشبع منه مثلما دخلته الشعوب الاوروبية قبل قرنين من الزمن.. ولكن نتمنى عندئذ ألا تأخذ من الحضارة الغربية إلا ايجابياتها.