مفاجأتان من أنقرة

TT

شنع شكيب أرسلان في الثلاثينات على فساد فرض التفرنج على الأتراك، بذكره أنه بعد عقد ونيف من سن اللائكية على يد كمال أتاتورك، كان المعلم حينما يطلب من التلاميذ الإتيان بترجمة كلمة ديمانش (الأحد بالفرنسية) كان يأتيه الجواب بأنها الجمعة. وكان الأحد قد أصبح يوم العطلة الأسبوعية، تشبهاً بالغرب، وفرضت البرنيطة، ومنع الحرف العربي، وغير ذلك مما دخل في تكوين الكمالية، كطريق نحو الحداثة.

واليوم بعد أزيد من سبعة عقود، تربت فيها أجيال متلاحقة من الأتراك على التفرنج، لم يتردد الناخبون يوم الديمانش الماضي، في أن يعطوا أصواتهم لحزب العدالة والتنمية الذي خاطب فيهم الحس الديني العميق.

إن هذا الحادث يقفل قوسا. والتصويت الذي حدث، يدل بحجمه، على تأكيد ميول أعرب عنها الشعب التركي مرارا، فيما سبق، تفيد بأن القوانين والتدابير المفروضة من أعلى، ليست هي التي تصنع الهوية، وإلى حد ما أن الحداثة ليس لها طريق واحد، وأن الحداثة لا يمكن أن تتم بدون مساهمة الجماهير المعنية.

وانطوى هذا الحادث على مفاجأتين، الأولى هي تمكن حزب فتي لا يزيد عمره على سنة، ولكنه يحتضن تراكمات حدثت منذ عقدين، من الفوز بالأغلبية المطلقة، ليحكم براحة، طيلة الولاية التشريعية التي تبدأ الآن. وقد فاز بفضل خلفيته الدينية، على الرغم مما هو معروف من تربص الجهاز العسكري في تركيا بكل ما يمكن أن يمس بعقيدة اللائكية.

والمفاجأة الثانية هي أن قادة التنظيم الفائز بأغلبية حرصوا على أن يبينوا أثناء الحملة الانتخابية، وطيلة المسيرة التي قطعها الحزب من النشأة إلى الفوز بالأغلبية، أنه يقدم نسخة جديدة ومنقحة، فهو يتقمص إسلاما معتدلا، لا يمت بصلة إلى الصورة التي تكونت على مر السنين، عن الإسلام في تركيا وغيرها، من حيث التصادم مع الديموقراطيا والحداثة.

وهي مفاجأة، لأن الخطاب الذي حرص عليه قادة الحزب، تركز على القول إن جماعة اردوغان ليست على شاكلة أربكان. وأن ما يقدمه حزب العدالة والتنمية هو إسلام «سوفط» يقبل قواعد اللعبة كما هي مفروضة تركياً وأوربياً.

وليس من باب سبق الأمور، أن ينظر إلى حزب العدالة والتنمية التركي، كحالة تنبئ عن تجربة هامة، تشق طريقها من حيث قابلية حزب إسلامي للتكيف مع اللعبة الديموقراطية. وأميل إلى تصديق خطاب العدالة والتنمية، لأني أعتبر أن الحركة الإسلامية في العالم، يجب أن تكون قد استفادت من تجارب الماضي القريب و البعيد، وأن تثبت أنها بتركيزها على الهوية، لا تعمد إلى تحطيم المكاسب التي أتت بها الحياة العصرية.

تتلخص الدعوة الجديدة والمنقحة لحزب العدالة والتنمية في أن تركيا بلد أوربي. وأنه يجب أن يكون مسموحا للديموقراطيا الإسلامية موقع في الحياة السياسية التركية، على غرار الديموقراطيا المسيحية، في أقطار أوربية عديدة. ويجر هذا إلى التعرف على محتوى ما يهدف إليه أركون وطارق رمضان ومسلمو إسبانيا من أن هناك فسحة للإسلام الأوربي.

إن ما يجب أن يثبت الآن هو أن الإسلام يجب ألا يبقى مثيرا للمخاوف. وأكثر من ذلك يجب أن يثبت أن الحركات ذات المرجعية الإسلامية، قادرة على ابتكار الحلول العملية. ويشير إلى ذلك، أن التصويت الكثيف الذي حصل لفائدة حزب العدالة والتنمية التركي، جاء نتيجة التسيير الجيد لبلدية إسطمبول، ونتيجة المؤهلات التي تمكنه من المساهمة في إيجاد الحلول الاقتصادية التي تعاني من جرائها تركيا، وأيضا تصديه لتقديم مقاربة جديدة لكيفية تدبير الشأن العام، بعد ممارسات عوقبت من أجلها الطبقة السياسية التي تولت تدبير الشأن العام في السنين الأخيرة.

ويثير الانتباه من جهة أخرى قابلية الإيتابليشمنت التركي للتعامل مع الحزب الفائز كحقيقة سياسية، في سياق التناوب على الحكم، الذي هو من طقوس الديموقراطيا، بل إن الأوساط الاقتصادية تقبلت نتيجة الانتخابات التي جاءت كما قال أحد كبار المستثمرين بحكومة قوية كفيلة بتوطيد الاستقرار، ويشير إلى ذلك أن البورصة تجاوبت مع الإشارة الواضحة لتوذيد الاستقرار بحث ارتفعت في اليوم الأول بنسبة 7 في المائة.

إن تعديل الحزب لخطابه راجع إلى ضرورة الانصياع إلى معادلة يقبلها المجتمع التركي نفسه، والاقتناع بمردودية الاعتدال، كما أن إذعان الإيتابليشمنت لتقبل التناوب، هو راجع إلى أن تركيا الراغبة في الاندماج في أوربا، لن يقبل منها أن تواجه حزبا غير مرغوب فيه بالأساليب الفجة المتعارف عليها في العالم المتأخر الذي تنتمي إليه تركيا، وكما كان يتم في الماضي.

يوم الأحد الماضي فقدت فكرة اللادينية آخر معاقلها، بعد أن مثلت تركيا إلى جانب مكسيكو والاتحاد السوفياتي، منذ طليعة القرن الماضي، أكبر النماذج تطرفا لفكرة محاربة التدين، حيث لم يقتصر الأمر على فصل الدين عن الدولة كما هو الحال في أغلب البلدان الغربية، بل تعدى الأمر إلى تعقب للتدين والمتدينين.

كان حادثا كبيرا إذن أن يفوز حزب سياسي له مرجعية دينية، في بيئة معادية، حيث، على عكس الدول اللائكية، وصل الأمر إلى حرمان نائبة برلمانية من حقها الدستوري لمجرد إصرارها على ارتداء غطاء الرأس.

وتقبل الجهازان العسكري والبيروقراطي في تركيا الأمر الواقع، رعاية للمظاهر التي يوليها الرأي العام الأوربي أكبر اعتبار، ذلك أن الرغبة الشديدة في الاقتراب من أوربا هي التي أملت على الإيتابليشمنت التركي إبداء احترام القواعد الديموقراطية

على الصعيد الخارجي كان للمفاجأة وقعها، فقد قوبل فوز العدالة والتنمية، باستسلام في أوربا والعالم. وسجلت افتتاحيات الإثنين لكبريات الصحف في الغرب، أن التصويت على حزب العدالة والتنمية شأن تركي يجب أن يحترم.

وتصرفت مختلف الأطراف الدولية حيال فوز الإسلاميين في تركيا بردود فعل متفاوتة. فقال خافيير صولانا المسؤول السامي الأوربي للخارجية علينا أن نتعامل مع الأعمال لا مع الأقوال، مشيرا إلى التصريحات المطمئنة التي بادر بها زعيم الحزب الفائز في الانتخابات، بشأن احترام التعهدات التي قطعتها تركيا على نفسها. وقالت آنا بالاثيو وزيرة الخارجية الإسبانية إن أوربا ليست ناديا مسيحيا ولكنها بالتأكيد لائكية

ويدل هذان الموقفان على أن التحفظ الذي كانت تركيا تثيره لدى شركائها الغربيين، ما زال قائما. ومنذ أسابيع قليلة كانت «لومند» قد ذكرت بأن الرئيس شيراك كان عام 1999 قد عقب على طلب تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي بقوله إن تركيا «بلد أوربي بكل تأكيد، ليس بالاعتبار الجغرافي المحض بل هو بلد أوربي بتاريخه وطموحاته.

ولا يتردد كلام مثل هذا بسهولة على ألسنة الساسة الغربيين. ولم تكن السياسة الداخلية التركية تسعف أصدقاءها بحجج كثيرة، تمكن من الدفاع عن ملفها. وفضلا عن سيرتها السيئة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، فإن طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوربي أثار دائما تحفظات ما فتئت ترفع في كل مناسبة.

وترجع هذه التحفظات إلى سببين، الأول هو أن هذا البلد مكتظ بالسكان وسيكون عام 2010 أكبر البلدان الأعضاء سكانا، إذ لا يقل عدد الأتراك حاليا عن 68 مليون نسمة، وهذا وضع له انعكاسات على التوازنات وعلى كيفية اتخاذ القرارات.

والسبب الثاني للتحفظات الأوربية هو استشراء التحفظ من «الخطر الإسلامي»، وكان السؤال الاحتياطي الذي يبقى معلقا في كل مناقشة حول احتمال انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي: وماذا يحدث إذا ما انضمت تركيا إلى الاتحاد وأتت الانتخابات بحزب إسلامي إلى الحكم؟

وما حدث يوم الاحد هو أن ما كان مجرد فرضية نظرية، أصبح واقعا حتى قبل أن تنضم تركيا للاتحاد، فها هو حزب إسلامي يأتي إلى الحكم وبأغلبية كبيرة

لكن حدث في طيات ذلك، ما يمكن اعتباره مفاجأة في طي المفاجأة الأولى، المتمثلة في الفوز الكبير، وهي أن حزب العدالة والتنمية لم يكتف بإعلان احترام التعهدات التي قطعتها تركيا على نفسها إزاء شركائها الأوربيين، بل إنه مضى على النحو الذي شرحه زميلنا أمير طاهري، في فترة الإعداد للانقضاض على الأغلبية، يرسل الإشارات إلى أنه جاد في التمهيد للاندماج في أوربا، مقتصدا في بعض المظاهر، ومتحكما في الخطاب.

فحرص على أن يبين أن مسألة غطاء الرأس ليست هي الأولوية، ووعد بأنه لن يثير الاضطراب في البلاد. وسيكون على قيادة الحزب أن تتحكم الآن في الانفلاتات التي قد تجلبها نشوة النصر.

وسيكون عليه أن يدرك أن 45 في المائة من الناخبين، وهم ممن لا يشاركونه تصوراته، قد وقع تغييبهم عن البرلمان بسبب نمط الاقتراع، أي أن هناك شرائح واسعة من الناخبين ستكون بالمرصاد لترصد الأخطاء واستغلال الأزمات التي ينبئ بها الوضع الاقتصادي والاجتماعي. في عبارة واحدة، سيكون عليه أن ينجز أكثر مما كان منتظرا من الطبقة السياسية التقليدية التي جرفها نمط الاقتراع.

إن العدالة والتنمية يبني الآن تجربة مهمة سيكون من نتائجها بيان أهمية الاعتدال.