تجديد الفكر الإسلامي المعاصر

TT

كان الشيخ محمود شلتوت (1310 ـ 1383هـ 1893 ـ 1963م) واحدا من أعلام مدرسة الإحياء والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر.. وكانت للعقلانية المؤمنة واجتهاداته الفكرية مكانة ملحوظة تلفت الأنظار، فالاسلام عنده دين الفكر ودين العقل ودين العلم، ورسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ «هو الذي لم يقدم حجة على رسالته إلا ما كان طريقها العقل والنظر والتفكير، والذي لم يشأ له ربه أن يحقق للقوم ما كانوا يطلبون من خوارق حسية، تخضع لها أعناقهم» «وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه، قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون» العنكبوت (50 : 51).

والقرآن الكريم ـ عند الشيخ شلتوت ـ هو الذي ارتفع بالعقل، وسجل أن إهماله في الدنيا سيكون سببا في عذاب الآخرة، فقال حكاية لما يجري على ألسنة الذين ضلوا ولم يستعملوا عقولهم في معرفة الحق والعمل به: «لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير» الملك: 10.

وهذه العقلانية الإسلامية المؤمنة تجعل من المنهاج الإسلامي ثورة على الجمود والتقليد، كما تجعل من البرهان سبيلا للإيمان بدلا من الظنون.. ولذلك كان من المقتضيات أن الإسلام دين العقل، ودين العلم حذر من اتباع الظن، وجعل البرهان والحجة أساس الإيمان «قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون» الأنعام: 148.

ومن هنا كثرت آيات القرآن الواردة في ذم التقليد والجمود على ما كان عليه سلفهم وجرى الخلف وراء السلف، من دون نظر واستدلال وكأنهم يرون أن السبق الزمني يخلع على خطة السابقين وآرائهم في المعتقدات وأفهامهم في النصوص قداسة الحق وسلطان البرهان، فالتزموها وتقيدوا بها وسلبوا أنفسهم خاصة الإنسان، خاصة البحث والنظر «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا» البقرة: 170. فالجمود عند الموروث، والاكتفاء به مصادم لما تقتضي به طبيعة الكون وطبيعة كل حي من النمو والتوليد.. والتناسل الفكري كالتناسل النباتي والحيواني والإنساني، كلاهما شأن لا بد منه في الحياة، ولو وقف التناسل الفكري لارتطم الإنسان في حياته بكثرة ما تلد الطبيعيات التي هو منها، وعندئذ يعجز عن تدبير الحياة النامية.. فيتحقق فشله في القيام بمهمة الخلافة الأرضية التي اختير لها ووكلت إليه منذ القدم.. وكذلك فالجمود على آراء المتقدمين، لمجرد أنهم يتقدمون فيه سلمة لمزية الإنسان في التمييز بين الحق والباطل، والملائم وغير الملائم.. فيقاد بالزمام، وزمامه صورة الآباء والاجداد، فهو دائما تجذبه القهقري، ولا تجد من نفسه عونا على التقدم، فيقع في ضيق من الحياة المتجددة حوله، ويظل كذلك حتى تنزل به غاشية من صولة الطبيعة النامية، فتذهب به إلى حيث ذهب الغافلون فالجمود جناية على الفطرة البشرية، وسلب لمزية العقل التي امتاز بها الإنسان، وإهدار لحجة الله على عباده وتمسك بما لا وزن له عند الله.

إنها صياغات حكيمة لأفكار نفيسة، تحتاج إلى التدبر العقلي، وإلى وضعها في الممارسة والتطبيق.