زلزال سياسي في بلاد الأناضول

TT

يبدو ان الغرب اصبح واعيا لخطورة اللعبة التي كان يلعبها التيار المتطرف فيه: اقصد التيار الكاره لكل ما هو عربي او اسلامي. ولذلك اصبحت وسائل الاعلام تفرق بين التيار المعتدل او المستنير في الاسلام، والتيار الاصولي المتزمت. وهذا شيء جيد بحد ذاته لانه يمنع اغلبية المسلمين من الانضمام الى التيار الثاني غصبا عنهم، كما يفتح المجال لحوار عقلاني ومسؤول بين العالم الاسلامي من جهة والغرب الاوروبي ـ الاميركي من جهة أخرى. وهكذا تُفوَّت الفرصة على المتطرفين في كلتا الجهتين فلا يستطيعون تسميم الاجواء بمشاعر الحقد والتعصب الاعمى. ومعلوم ان المتطرف يلجأ دائما الى الضرب على الغرائز التحتية والعصبيات التاريخية ويؤجج فيها النار حتى بعد ان تكون قد انطفأت او خمدت. انه لا يستطيع ان يعيش الا في جو من الصراع مع الآخر، في رفض الآخر بشكل جذري، مطلق.

وقد لاحظت بعد انتصار الحزب الاسلامي في تركيا، اي حزب العدالة والتنمية، ان وسائل الاعلام لم تدشن حملة واسعة على الاصولية والاصوليين كما كانت تفعل عادة، وانما راحت تتحدث عن الاسلام المعتدل وكيف انه حقق نجاحا صارخا في الانتخابات النيابية الاخيرة. لا ريب في انها لم تفرح كثيرا بهذه النتيجة، وكانت تفضل ألف مرة نجاح الكماليين والعلمانيين الأقحاح، ولكنها استوعبت النبأ بهدوء اعصاب ورزانة مدهشة الى حد ما. فهل ابتدأ الغرب يعي خطورة رمي جميع المسلمين في سلة واحدة؟ هل ابتدأ يفهم ان المسلمين في اغلبيتهم الساحقة أناس طبيعيون يريدون ان يتقدموا ويتطوروا وينّموا بلدانهم مثلهم في ذلك مثل بقية البشر؟ هذا ما نرجوه.

ولكن لا ريب في ان تصريحات زعيم الحزب الاسلامي المنتصر السيد طيب اردوغان قد ساهمت في تهدئة المشاعر ليس فقط في الغرب وانما ايضا داخل تركيا نفسها. فقد قال بأنه ليس اصوليا متطرفا ويرفض هذه الصفة تماما. وانما هو رجل مسلم ومؤمن ويمثل اعماق الشعب التركي وهويته التاريخية. ولكن تدينه يعني حياته الشخصية بالدرجة الاولى، وليست له انعكاسات على الحياة العامة او السياسية، بل قال إنه سوف يحترم القوانين العلمانية السائدة في بلاده. فالحكومة سوف تخدم كل الشعب وكل المواطنين وليس فقط فئة معينة فيه. ولن تجبر احدا على تغيير عقيدته الشخصية، وقال انه حريص على ادخال تركيا في الاتحاد الاوروبية.

هذا الجمع بين الاسلام والحداثة يبشر بالخير وبالمستقبل، وربما كان هو طريق الخلاص بعد ان تخبطنا كثيرا طيلة الثلاثين سنة الماضية في متاهات التطرف المراهق إما يمينا وإما يسارا. الآن جاءت مرحلة الحل الوسط: كنتم أمة وسطا... وانتهت مرحلة الهيجانات الثورية والتنظيرات العقائدية التي ترفض ان تأخذ مكتسبات الحداثة الكونية بعين الاعتبار. نحن الآن على مشارف الاسلام العقلاني، والمستنير، والمسؤول، والحل يمر من هنا.

ولكن يبدو ان الشخصية التي تمثل الاتجاه التحديثي او التنويري في الاسلام التركي هي بالدرجة الاولى شخصية الرجل الثاني في الحزب: عبد الله غول. فقد تجرأ على مواجهة الجناح الاصولي داخل الحركة الاسلامية التركية وطالب بتقديم تنازلات للحداثة العالمية. كما طالب بإجراء اصلاحات وتجديدات على عقيدة الحزب لكي تستطيع ان تتماشى مع افكار التقدم والتطور. وتقول الانباء انه رجل شريف ونظيف، وربما كان هو رئيس الحكومة المقبل.

مهما يكن من أمر فإن الحالة التركية اعادت الى الاذهان من جديد مسألة التوفيق بين الاسلام والحداثة باعتبارها اهم مسألة مطروحة على جيلنا والجيل الذي سيليه وربما اكثر. ولا يتوقع ان تُحسم بشكل جذري خلال فترة قصيرة من الزمن. فهي من نوع المشاكل البنيوية او المفصلية التي تستغرق عدة عقود من السنين قبل ان تجد لها حلا نهائيا. هذا يعني اننا لا نزال في بداية البدايات. ولكن الحالة التركية تتمتع بخصوصية غير موجودة في اي مجتمع اسلامي آخر. فتركيا هي البلد العلماني الوحيد في العالم الاسلامي. ومع ذلك فإن الحزب الاسلامي هو الذي انتصر في الانتخابات الاخيرة. كيف نفسر ذلك؟ هل يتوقع ان ينتصر الحزب المسيحي في فرنسا مثلا، او في انجلترا، او حتى في البرتغال؟ بالطبع لا. ولكن هنا ينبغي ان ندخل في التفاصيل. ينبغي العلم بأن العلمنة التي فرضها الزعيم التاريخي مصطفى كمال اتاتورك على تركيا كانت مستوردة من الخارج، لا نابعة من الداخل ولا من الاعماق. وكانت مفروضة من فوق لا من تحت. وقد استطاع فرضها بصفته البطل التاريخي المؤسس لتركيا الحديثة. هذا يعني ان العلمنة التركية لم تكن ناتجة عن صراع جدلي خلاق للذات مع ذاتها. لم تكن ناتجة عن توتر تثقيفي او تفاعل خصب بين التراث الاسلامي العريق وافكار الحداثة والعقلانية. وهنا يكمن الفرق الاساسي بينها وبين العلمنة الفرنسية، او الالمانية، او الانجليزية، او الاوروبية بشكل عام. ولهذا السبب فإن التيار الديني التقليدي عاد الى الظهور من جديد، وبكل قوة، حتى بعد مرور ستين او سبعين سنة على فرض النظام العلماني. وهذه العودة مستحيلة في البلدان الاوروبية. لماذا؟ ليس لأن الاسلام ضد التطور او التقدم كما تتوهم شرائح واسعة من الرأي العام الغربي، وانما لانه لم يتح للمجتمعات الاسلامية حتى الآن ان تنخرط في دراسة نقدية ـ تاريخية لتراثها وماضيها. لم يتح لها ان تبلور فهما عقلانيا للتراث الديني الاسلامي، اقصد فهما جديدا يستطيع ان ينافس الفهم الاصولي التقليدي الذي يهيمن علينا منذ مئات السنين، وبالتالي فالعلمنة التركية كانت مجرد قشرة سطحية تلصق على سطح المجتمع من دون ان تنفذ الى اعماقه او تترسخ فيه، ولذا فانها مهددة في اي لحظة من قبل تيار جارف صادر من الاعماق. ولولا ان مؤسسة الجيش تحميها بالقوة، وكذلك بعض الطبقات العليا في المجتمع وجمهور من المثقفين المتأثرين بأفكار الحداثة الاوروبية لربما تزعزعت وانهارت كليا. بهذا المعنى فإن الخصوصية التركية تذوب، وتصبح تركيا كأي بلد عربي او اسلامي آخر. اقصد تصبح بلدا لم يستطع بعد ان يحسم مسألة الصراع بين قيم الماضي وقيم المستقبل بشكل جذري. نقول ذلك وبخاصة ان تركيا تعاني من نفس المشاكل التي تعاني منها جميع بلدان العالم الثالث: كالبطالة، والفقر، والتزايد السكاني الهائل، وفساد الطبقة الحاكمة، والرشوة.. الخ، ولكن يبقى صحيحا القول ان تركيا مرشحة لأن تفرز تيارا فكريا قادرا على تحقيق المصالحة التاريخية المنشودة بين الاسلام والحداثة، بين القيم الخصوصية وقيم الحداثة الكونية.

هذا لا يعني بالطبع ان المجتمعات الاسلامية او العربية الأخرى لا تحتوي على هذه الامكانية. فالمجتمع الايراني او المصري او التونسي او الجزائري.. الخ، يعيش مخاضات هائلة سوف تتمخض عن شيء ما، يمكن ان ندعوه بالحداثة الاسلامية او العربية. ولكن تركيا بحكم قربها من اوروبا قد تحقق هذه «المعادلة المستحيلة» قبل غيرها. نقول ذلك وبخاصة اذا ما قبلوها في الاتحاد الاوروبي. واذا ما حصل ذلك فانها ستؤثر على كل العالم الاسلامي وبخاصة العربي. وسوف تدفعه باتجاه التحديث الفكري والسياسي اكثر فأكثر بحكم هيبتها التاريخية عندما كانت زعيمة للعالم الاسلامي طيلة عدة قرون. فما تفعله تركيا قد يقلده الآخرون عاجلا او آجلا وبخاصة اذا ما نجح في اخراجها من الفقر، وسوء التنمية، والتطرف الديني او الاصولي. وكلها اشياء مرتبطة ببعضها البعض.

ولكن هنا ينبغي على اوروبا ان تلعب دورا ايجابيا فلا ترمي تركيا في هامشية الاختلاف المطلق بحجة انها اسلامية. لا ينبغي حشرها في الزاوية والقول بأنها لا يمكن ان تصبح حضارية لأنها اسلامية! فهذا الشرط تعجيزي ويعني في نهاية المطاف ما يلي: اننا لن نقبلكم حتى لو خرجتم من جلودكم!.. لا ريب في ان الزمن العربي الاسلامي غير الزمن الاوروبي. لا ريب في ان هناك فجوة تاريخية هائلة تفصل بيننا وبينهم من حيث التقدم والتطور. ولكن لا يحق للغرب ان يطالبنا باللحاق بركب الحضارة، بتبنّي فلسفة حقوق الانسان والمواطن، او دولة الحق والقانون، او تطبيق التسامح الديني، اذا كان لا يفعل شيئا من أجل مساعدتنا على الخروج من المأزق الرهيب الذي نتخبط فيه. ينبغي على الغرب ايضا ان يعرف ماذا يريد.