التكساسي والتكريتي ومأزق الخيارات

TT

ليس صدام حسين وحده في مأزق وامام خيارين أحلاهما مر، بل جورج بوش ايضا. فالاول مخير بين نهايتين: إما الرضوخ التام للتهديدات الاميركية وقرار مجلس الامن، وبالتالي فقدان سلطته وسيطرته على العراق وتعريض نظامه للتفكك او للانقلاب، وإما خوض حرب ضد الولايات المتحدة لن تتوقف الا بعد اسقاطه. أما الثاني فإنه ايضا مخير بين صرف النظر عن الحرب، اي بقاء صدام حسين في الحكم وبالتالي تكذيب كل ما رددته ادارته عن الخطر العراقي، واما خوض حرب العراق حتى نهايتها وما سوف تكبده لبلاده وللعالم من ثمن وما سوف يكون لها من مضاعفات مضرة بالمصالح الاميركية في العالمين العربي والاسلامي.

ولكن اخطر ما في صراع الرئيسين العنيدين: «التكساسي» و«التكريتي»، هو انه ليس نزاعا سياسيا كلاسيكيا بين رئيسين او بين دولتين، على غرار نزاعات وحروب القرون السالفة، بل انه جزء من «حرب عالمية جديدة»، او حرب لم يعرف تاريخ البشرية مثيلا لها، اذ انها لا تنتهي بالانتصار على «العدو»، بل تفتح الباب على حروب اخرى، وتدفع بالعلاقات الدولية نحو آفاق مجهولة. ان تداعيات حرب اميركية ـ عراقية محتملة الوقوع، ستؤثر مباشرة على انظمة العالمين العربي والاسلامي وشعوبهما وعلاقتهما بالولايات المتحدة الاميركية وبالغرب عموما، بالاضافة الى تغييرها بل نسفها لمعظم اسس القانون الدولي التي استغرقت البشرية قرونا للتوصل الى اعتمادها قواعد للسلام وللعلاقات بين الدول. فاللاعبان الاميركي والعراقي ليسا وحدهما فوق الحلبة حتى لو انفردت الولايات المتحدة في الهجوم العسكري على العراق. وتحاربهما سوف يدفع ثمنه الجميع، بصورة مباشرة او غير مباشرة.

احدى المجلات الاميركية نشرت «دراسة سرية» ـ كما تقول ـ كلفت الادارة الاميركية احد مراكز الابحاث الستراتيجية بوضعها عن «ما قد تكلفه حرب اميركية على العراق تنتهي باحتلال بغداد وتصفية النظام العراقي وادارة شؤون العراق وايفاء ديونه واعادة بنائه، وتأهيله لحكم ديمقراطي»، ففي كل الاحتمالات، تقول الدراسة، سوف تكلف هذه الحرب مبالغ مذهلة (تفوق الالفي مليار). ترى، لو انفقت هذه التريليونات على انماء العالم الثالث وايفاء ديونه، ألا تحل مشاكله الاقتصادية وتراجع الفقر والبطالة فيه؟ وألا يتراجع معها القهر والغضب، المولدان الاساسيان للعنف والارهاب؟

ثمة خطر آخر واكبر قد تقود اليه هذه الحرب الاميركية ـ العراقية، ان هي وقعت (ومن الصعب ان لا تقع رغم قبول صدام حسين بقرار مجلس الامن، وفداحة ثمنها)، الا وهو انها سوف تعمق اكثر من هوة قائمة، اليوم: بين الرأي العام الاميركي والرأي العام العربي ـ الاسلامي. بين الانظمة الحاكمة العربية والاسلامية وشعوبها. بين الشرعية الدولية الممثلة بالامم المتحدة والقوة العالمية العسكرية والاقتصادية الاميركية الحاسمة الفعلية للنزاعات في العالم. بين شمال العالم المتقدم صناعيا وجنوبه المتخبط في تخلفه الاقتصادي والاجتماعي. بين المسلمين والغربيين. فنظرية الحرب الوقائية، واستراتيجية الحرب الموجهة الكترونيا وبأقل عدد من الضحايا، وفرض نظام حكم على بلد ما من الخارج وبقوة السلاح، والتدخل حتى في برامج التعليم، ناهيك بتدابير المراقبة وتقييد الحريات والتجسس على الحسابات في المصارف، انما هي خطوات تعود بالقانون الدولي الى القرون الوسطى، وبالمجتمعات الوطنية والعلاقات بين الشعوب والدول الى عهود الاستعمار.

ان هذه الاخطار المحدقة بالعالم وبالعلاقات بين الدول، بعد 11 سبتمبر واعلان الولايات المتحدة الحرب على الارهاب، ليست غائبة، بطبيعة الحال، عن بال وانظار الرئيس الاميركي وادارته وحكومات الدول الكبرى. وعن خاطر المفكرين والموجهين في الغرب. انها اخطار حقيقية مهما حاول المسؤولون الاميركيون استبعادها او التخفيف منها، وانها ستقود حتما الى تنامي الحركات الارهابية في العالم، لا الى قطع دابره. والى مجابهة بين الغرب والعرب والمسلمين، او كما قيل، الى حرب حضارات.

ان الحرب الاميركية ـ البريطانية على العراق يجب ان لا تقع، لانها، وايا كانت نتائجها، تفتح على العالم باب الحرب العالمية الثالثة، ولكن النظام العراقي يجب ان يتغير، لأن استمراره يكلف الشعب العراقي غاليا وقد يكلف الامة العربية اغلى بكثير مما كلفها حتى الآن من الخسائر. اما الضرورة الملحة الاخرى فهي وقف المجابهة الدموية بين الاسرائيليين والفلسطينيين على ارض فلسطين، والتعجيل في ارسال قوات دولية تفصل بينهم وفي اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وبامكان الولايات المتحدة بالتعاون مع كل دول العالم الاستمرار في سن القوانين واتخاذ التدابير الامنية والمالية لحماية نفسها والعالم من الارهاب، ولكن بعد ان تتوصل ادارتها والرأي العام فيها الى التمييز بين الارهاب والمقاومة المشروعة، والاعتراف بأن وراء الاسباب العديدة التي ادت الى غضب الشعوب العربية والاسلامية عليها وجنوح الحركات المتطرفة الى العنف والارهاب، هناك سبب رئيسي يؤكد عليه العالم مع العرب والمسلمين، الا وهو الانحياز الاميركي اللامتناهي لاسرائيل.

ان تنقية اجواء العالم من الارهاب لا تمر، ضرورة، بالحرب، ولكنها تمر حتما، وبمساعدة الحكومات والمنظمات العالمية، بتجفيف مستنقعات الفقر والجهل والظلم في العالم الثالث، وفي الشرق الاوسط والعالمين العربي والاسلامي، بنوع خاص.